الرئيسية » رصاص حي » زياد الرحباني.. صديق الله

زياد الرحباني.. صديق الله

لوركا سبيتي |

زياد الرحباني المتفرد في الموسيقى والمسرح متفرد حتى في حياته. الفتى الذي كان ابن عملاقين بنى نفسه بدون أن يتكل عليهما. عاش خارج البيت وداخله. خارج العائلة وداخلها. وحين شب كان مرآة أبويه ونقيضهما في آن معاً.

ما الذي يدفع بموسيقيّ معروف مثله يستطيع أن يجلس في الصف الأمامي أن يكون هنا في الأخير؟ خطر ببالي ألف احتمال إلاّ الخجل، الذي اتضح لي حين عرفته جيدا في ما بعد. لحظات خرج مسرعا فلحقته خوف أن يغادر قبل أن أتحدث اليه، أسرعتُ الخطى، بعض الناس في الخارج يتبعونه بنظراتهم، صبية طويلة القامة اقتربت لتأخذ معه صورة فرفض بحزم وطلب منها أن تتصور مع المُحتفى بها (جميلة بو حيرد). سمعتُ الحديث فعرفت أنني أمام رجل واضح لا يراوغ.. قدّمت نفسي.. رد متفاجئا: «كنت أظنك تتصنعين البحّة تدللا عبر الأثير، هل صرخت كثيرا وأنت صغيرة ولم يسمعك أحد»؟
زياد الصغير
لنفترض أن هناك كاميرا تعلو أبطال هذه القصة، هي الآن تنتقل بين منطقتَي «الرابية» حيث كان منزل والديه و «بدارو» حيث كان مكتب العمل.. زياد الصغير يستيقظ عند الرابعة والنصف صباحاً يجهّز نفسه بمساعدة المربية «جمال» ليوصله سائق العائلة «عبدو شليطا» إلى بدارو، وهناك يستقلّ باص المدرسة الذي يلفّ ويدور ليقلّ كلّ التلاميذ من طريق صيدا القديمة إلى معمل غندور، وكنيسة مار مخايل وغاليري سمعان وصولاً إلى مدرسة الجمهور. «حياتي كلّها مرّت على الأوتوستراد العربيّ» يخبرني بلكنته الكوميدية. لم يحب زياد الشقيّ شيئا في المدرسة إلاّ وقت الفرصة، وطبعا تودون أن تعرفوا كيف تجسدت شقاوة هذا الفتى؟! فتح ورفيقه في فرصة العاشرة خزائن التلاميذ وأكلوا زواداتهم، قام بجمع المال من تلامذة الصف لشراء مجلات لنساء عاريات، وكان الشرط بتمريرها بين الطلاب داخل الصف أثناء شرح الأستاذ. «كنّا نستعمل خيالنا الواسع لكي يمضي النهار الطويل بسرعة». كل هذا ولم يعلم أهله ما يفعله زياد في المدرسة بالرغم من العقوبات التي كادت تصل الى الطرد وإعادة العام الدراسي لولا تدخل لجنة الأهل لمصلحته حينها. الطريق شاقة ذهابا وايابا، حيث انه عند الرجوع كان عليه اجتياز غابة «كفوري» مشيا والمرور بالكلب الضال الجائع الواقف هناك للوصول إلى المكتب. زياد الصبيّ الذي لا لون له، المتعب من طول النهار وكثرة الشقاوة والوحيد كبئر يدخل الى المكتب، أبوه وعمه مشغولان بالتأليف والتسجيل وأشياء اخرى، أمه لا تأتي إلّا عند البروفات، يجلس أمام البيانو ويتحول الى أنامل صغيرة تعزف وتنتظر حتى التاسعة ليلا أو أكثر لتعود الى البيت.
الكاميرا تعود مع زياد، فيروز الأم بقامتها الطويلة وشعرها النحاسي وكحلتها التي نسيت تنظيفها من ليل امس تختفي حين يدخل الشخصان. «ربما تشاجرا هذه المرة ايضا» يفكر زياد، وعليه أن يترأس المفاوضات مجددا. بطبيعة الحال يحتاج الابن إلى ان يكون والداه متحابيْن، فيعمل جاهداً على مصالحتِهما بالرغم من أنه لا يعرف عن العلاقة بين الرجل والمرأة شيئا بعد. أمه تشكو له لسان أبيه السليط وشتائمه «كان أبي يحب لعب الأيدي، حسّاس في الأغاني التي يكتبها بينما في حياته الشخصيّة كان عنيفاً جدّا». وأبوه الذي كان دقيقا يصبو الى الكمال ليس فقط في الموسيقى بل في كل شيء، يشكو له أمه. يتذكر زياد، وخجل غريب متصل بنظرة علقت في البعيد، والده يَهمّ بالمغادرة من البيت غاضبا، يطلب منه توضيب الحقيبة بينما يُكمل هو الشجار مع زوجته «كنت أنوي تلحين أغنية لهما اسمها: ضبّ بابا ضبّ»! يكرّرها مرتين ويضحك ضحكة هستيرية تُدمع عينيّ.. بعد مغادرته بقليل يتصل عاصي بفيروز سريعا: «حبيبتي، تقبريني»، هذا الاتصال يطمئن قلبا صغيرا ينبض وراء الباب.. «كان يحبها كثيرا حبا صافيا، ولكنها كانت تعامله معاملةً أفضل». اذاً هل كنتَ ترى أنهما يليقان بعضهما ببعض؟ «نعم لم أكن أتخيل الواحد من دون الآخر، فمن سيلحن أغانيها ومن سيغني ألحانه! «هكذا ردّ الموسيقيّ الذي علق في طفولته ولم يخرج منها الى الآن.
لقد أرادت فيروز زياد محامياً، وأراد أن يكون طبيبا نفسيا، ولكنه كان وصار بالقوة وبالفعل موسيقيا، ولا يصلح إلا للموسيقى، إخراجا وكتابة وتمثيلا ومسرحا، وهذا ليس بأمر غريب على من عاش وسط الألحان كيفما اتجه فنحوها وأينما هرب فإليها. الموسيقى قريبة اليه اكثر من أمه التي لم يرها في معظم الأحيان. «كنت أشاهدها فقط على عتبة المسرح»، كل الوقت لديّ ولكنّها كانت مشغولة في كلّ الأوقات». يهمس لي بأن فيروز لو اعتزلت الغناء يوما فستصبح مذيعة أخبار باللغة العربية في لندن. «تخيّلي فيروز تقرأ الأخبار» يقهقه عاليا.. زياد طفل يشتاق لأمه اشتياقا أبديا، لم يقل ذلك ولكني شعرت به، بحنان مفقود له شكل الموقد ورائحة اللبن وقريب كفكرة لا يستطيع التقاطها.
قصائد
الكاميرا تصوّر الفتى يكتب قصائد أظنها دلّت على عبقريته الآتية: «في دنيانا يا أمي لا يوجد فستانٌ بشع ما دام لكلّ فستان واحدةٌ تُحب أن ترتديه». «لو عددتُ درجات بيتي وكم من مرةٍ صعدتُها لكان هذا درجاً طويلاً يخترق السحب وَلو عددت ضحكات أمي لي لرافقتني طوال صعودي ووقعتْ من بعدي الضحكات على الدرج وأزهرتْ زهرا». اكتشف عاصي القصائد ونشرها في جريدة النهار تحت عنوان «صديقي الله» من دون علمه، الأمر الذي أحرجه كثيراً في المدرسة بين زملائه. انتبه زياد لاحقا إلى أنّ أكثر الأفكار التي كتبها موّجهة الى أمّه ولكنه لم يتنبه أن الله صديقه الذي خاطبه في هذه القصائد هو أبوه، السلطة والمثال والرمز «أنا» لا أَحسِدُك على معرفتك مصيرَ كلٍّ منّا، لأنّك قد تبكي على مصيرِ حزين بينما صاحِبه سهران يَضحك. وتَعرِفُ الفرَح قبل وقوعِه فلا ترى مثلنا لذّة المُفاجأة».. من هنا والى الآن لم يخب ما كتبه زياد وما لحّنه ايضا، كلماته تجرح حقيقتُها كما تفعل الحياة، طالعة من مطارح في دواخله نسيَ نفسه أن يزورها، افتكرها امّحت، اختفت، ابتلعتها عزلتها. هو متفرد واستثنائي ولا يشبه إلّا خياله الذي أظنه ما زال يفاجئه ويمتحنه ويقسو عليه أحيانا وقد يلتصق به كأنه وسواس قهري لا يتركه يفتح الباب لأحد كما يفعل به الآن وفي هذه الأيام!
زياد الحفيد شابه جدّه ليس في العنف بل في الشرب حدّ الإدمان.. الكاميرا تصور صبيا طريا يتلقى دروسه في مدرسة من أهم مدارس لبنان، ويدرس عزف البيانو عند أهم الأساتذة وابن أهم مبدعيّن في الوطن، يشرب الكحول وهو في الثالثة عشرة من عمره وطبعا في السرّ، من المحتمل أنه حمل عبر الجينات هذه الصفة، ولكن من المؤكد أن المراهق أراد الهروب. «ممّ كنت تهرب»؟ يجيب بارتباك طفولي: «من الطفولة، من المنزل، من الأشياء المريرة التي حدثت في حياتي، الكحول يخفف وطأة القسوة». عاش المؤلف الموسيقي مع الإدمان فترة طويلة ولم يوقفه إلّا جسده الذي ناداه بأن توقف وإلّاّ فستموت.
خيبة الماركسي
أُثقل الماركسيّ بالخيبات والإحباطات، وهزم مع جيل انتمى اليه، بسبب الحرب الأهلية من جهة وانهيار الاتحاد السوفياتي وفشل مشروع اليسار في العالم من جهة اخرى، بالإضافة الى تدمير المجتمع الذي أصبح رهينة الرأسمال والقوى المنتصرة، يضاف اليه فشله في العلاقات العاطفية وبالتالي الفشل في بناء عائلة وعزلته عن المجتمع.. الماركسيّ كتب خيباته مسرحاً وتنبأ المستقبل فيه، ففي مسرحيّة «بخصوص الكرامة والشعب العنيد»، و «لولا فسحة الأمل»، توقع أنّ المجتمع اللبنانيّ سيعود إلى العصور الحجريّة والحياة البدائيّة في الغابات، وتوقعّ انقسام العراق، وأنّ بغداد ستطالب الأمم المتحدة باستخدام مياه دجلة والفرات. وهذا الشيء قد حدث ما يشبهه.. وحاول في «فيلم أميركي طويل» تشريح المجتمع في الحرب من وِجهة نظر فكريّة ونفسيّة، ووضع الضوء على جدليّة الناس والزعماء والمؤامرة، كما ولو أنّه توصل في النهاية إلى حلّ وهو الجنون. يقول لي بتمعن ساخر: «أفتكر أنّنا كشعب لبنانيّ نعيش خارج الواقع بل خارج التاريخ. لا أظنّ أنّ هناك طريقة أو صيغة ما تروي للأجيال القادمة كيف وقعت الحرب. يُمكن لشخص غير لبنانيّ من جهة دوائر الاستخبارات الخارجية التي تُحرّك الأوضاع في لبنان أن يكتب هذا التاريخ».. في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» حاول تشريح النظام الاقتصادي اللبناني فجسّده على صورة ثريا العاهرة التي تضاجع الأجانب مقابل المال من أجل عائلتها (كم تشبه ثريا 8 و14 آذار؟!).
لم يكن الرحباني الشاب الذي ينتمي الى عائلة تملك سلطة فنية ومعنوية مهولة تكاد تختزل الوطن، والذي ثار عليها فانشق مبكرا ورسم طريقه المغاير وطريقته الصادمة، ملحناً فقط بل شخصية استثنائية بالنسبة لجيل شاب أراد يومها الانقضاض على صيغة الوطن، لم يكن كاتب مسرحيات فحسب كما لم يكن تشيخوف وبريخت وغارسيا لوركا، هو كاتب حياة وكاتب موت وما بينهما، في أيامٍ مرّت ليس منذ زمنٍ طويل، كان المكان مسرحاً، والوقت ليس له شكل النهار والليل، والطقس لم يكن ماطراً أو صحواً، والحرب لم تكن تعرف أنّ لها قدمين، بدّد القلق العارم وأكّده، والغيثُ الذي فاجأ المارّة، كان على شكل ضحكة. في المسرح تشبّث بالحقيقة كأنّها نافذته التي يطلّ منها على العالم. حقيقةٌ لا تنفع حطباً ولا مجذافاً، بل تُعاتق العالم المُثلج، وتحنو عليه.
مع زياد الرحباني الحديث يطول، تظنه انتهى، ولكنه فقط يأخذ نفسا عميقا، فتأخذ نفسا عميقا أنت ايضا، يتحرك وتبقى مسمّرا، هو كثير الحركة في منزله، المتراكمة أشياؤه والمتكدسة كأنها كائنات تشاركه العيش. كل شيء فيه له قصة، كل ورقة يحتاجها وكل قنينة خالية أو مجلة بالية تعنيه.. لا يهدأ في مكان، يقف ويجلس في آن، يذهب ويأتي، يتكلم ويصمت معا، يضحك ولكنّ حزنا ما في عينيه يطلّ عليك ويختفي، يحرّض حزنك، تتعاطف معه، ربما يصرخ في وجهك وتقبل، ربما يغضبه عدم فهمك لما يقول وتظل متفهماً.. وعليك دوماً أن تضحك لنكاته وتعترف بسرعة بديهته المرضيّة.
أرفعُ صوت الموسيقى، أشعر به يداعِبُها كأنّها امرأةٌ شغوف ومتطلّبة وتحتاجُ دوماً إلى الرفقة. تقول أشياء لا أفهم أكثرها ولكني أشعر بها كالماء ينقر الهواء ويستسلم لملمسه واثقة المزاج كبيرة بحجم الفتنة.. تنتهي وأعيدها، تنتهي وأعيدها صادحة واضحة مباشرة ومفاجئة «ايه في أمل» ويلفحني أمل يرفرف أقرب من حمائم الرؤية…

السفير

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

هل زعزعت وسائل التواصل مكانة الكتاب المقروء أم عززتها؟

صارت التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل، تيك توك، يوتيوب، فيس بوك وغيرها مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار …