حلا حسنة |
يشدّني بقوة إليه، أذيال خيبة ربما وربما يراني مجرّد مهلوسة مجنونة تنفض عنها غبار الأنوثة الكثيف، في ذاك النهار الذي قررت أن أزيل حدود الوطن عني، أعلنتُ غربتي في صمت شديد، تركتُ ورائي الكثير من الصور على الجدران المهترئة، جدران تقاوم نفسها وتنزع عنها عبق الذكرى، جدران تحوّلك بين اللحظة والأخرى إلى سالب ومسلوب للحريات، جدران لا تستطيع سوى أن توقظ من داخلك كل ما لا تريد إيقاظه.
لم أكن أدرك يوماً أن الذكريات لا تتعلق بالأمكنة وأنه باستطاعتك أن تحمل معك كل ما تريد إلى حيث ما تشاء، لم يكن الأمر مجرّد حروف ومجرد لقاءات أو هو عطر شرقي تعلّق على حافة قميصي وتأرجح إلى الأبد، طفلي الذي تركته في جدول ماء صغير صار أمواجاً عاتية تتلاعب بخدود النساء الطريّة، وأبي الذي كان يرحل كل يومٍ إلى اللامفر ويعود حاملاً في جيبه الكثير من الأموال صار اليوم هو الفتات التي أراها في وجوه الحاقدين على الحياة، كانت الأموال حيلة كي نشتري الحرف، حرفٌ بات يُرمى في أزقة الطرقات ولا من عين جلودة جريئة تحاول أن تنقذه وكأنه صار عاهرة على أبواب الكازينوهات في زمن كثُرت فيه الفضائل، كنا ندفع حينها ثمن ما غدا مجانياً اليوم ونرتدي نسيجا حاكه الدم من بين أظافر أمي، وصار اليوم تراثاً؛ لو أدركت أمي بأن نسيجها ستقابله الأموال وستشتريه أصحاب النفوس البالية لما حاكت لنا قطعة وما كانت قد أجبرت أبي أن يحمل المقاسات ويأخذ أطوالنا، كنت أذكر أن طولي حينها كان يتراوح ما بين الثمانين والتسعين حُلماً..نحن لا نقيس أطوالنا بالسنتيمترات، تلك المعايير للمعابد والأصنام وحينها كنّا مشاريع أحلام؛ كان طول أخي هو ذاك الحلم الذي لا يتوقف، لم يستطع أبي يوماً بجبينه الشديد الصلابة أن يقيس حلم ابنه.
كانت النساء من حولنا يضعن في الجعبات أطفالهن ويحملن رجالهن في العقل الباطني، يتسابقن مع ظلال الشمس نحو سهول القمح، ولوقاحة الحظ قد يُربط الطفل أو يُعلّق بين غصون شجر الجوز، تتزحلق أحلامه أمامه حتى تغفو في داخله كل الأفكار إلا فكرة أن أمّه ستعود في هنينهة ما، وتأخذه حياته إلى البعيد ويُعاني من الإنتظار ويخسر كل امرأة قد انتظرها طويلاً.. ورغم ضعفه ووهنه فقد يُحسد كل رجل شرقي على ما تعطيه إيّاه الموروثات العفنة..على معدّل السعادة الذي لا يجب أن يُمسّ به، على هيبته الإجتماعية وإتيكيت حضوره ورونق مفاهيمه التي ساعدته على خلطها الكوكبة المحيطة به، إبني لم تطحنه يوماً معاصر الأيام إلا لأنه تشبّه بالرجولة المصطنعة، إلا لأنه لم ينتظر أن يحمل ذاكرته إلى بلد أخفّ وطأة، إلى مكان يستطيع أن يجعل تعب سنينه يحتضر بطريقة أسرع، بل رمى كل شهقاته وأنفاسه الأخيرة بين أجفاني وها هي تطبق بدقة ولطف شديدين علّني أرسم حدودا جديدة لوطن جديد أو أبقى مضاجعة للآلام على حافة الوطن.
صحفية لبنانية ـ الكويت / خاص موقع قلم رصاص