اعتذر يا صديقتي لأني لم أتذكر أين رأيتك في المرات السابقة، رغم محاولاتي الحثيثة إلا إني لم أفلح في إنعاش ذاكرتي. سأترك هذه الذاكرة للزمن عله يزيل عنها ما علق بها من صدأ، وتعود إلى سابق عهدها، فكما تعلمين لقد غادرت للتو حرباً وغامرت في عبور بحر الظلمات كي أصل إلى هنا.
هل رأيتني في سفر؟
حتماً لا، فأنا ما زلت بعمر لم يُسمح لي بالسفر خارج أسوار بلادي قبل الآن، إلا أني تسللت من تحت السياج وجئتك حافياً فقد أضعت حذائي في مؤخرة القارب الذي مخر بي عباب المحيط ليوصلني إلى هنا.
جئتك من بلاد يقتلون فيها الفراشات إذا فكرت بالطيران بمفردها خارج راداراتهم، ويقتلعون حناجر البلابل إذا غردت خارج سربهم، ويطلقون الرصاص على أجنحة العصافير إذا طارت عكس رياحهم.
جئتك من بلاد لا تشبه أي بلاد القاضي فيها هو الجلاد، وقرص الشمس يُحجب عنك إن لم تُصلي مع بقية العُبّاد والزُهاد للحاكم بأمر الله.
هناك حيث يشرب العوام الدم، ويستحم الخاصة بالحليب ويطهرون مؤخراتهم بالنبيذ الحلو.
ربما رأيتني في حلم؟
لا اعتقد ذلك، فمنذ سنوات طويلة لم أحلم، لأنهم هناك يُجهضون الأحلام، ويتركون لك الكوابيس، حلمت يوماً أنني أحمل لوحة مكتوب عليها “بسم قلم الرصاص”، أفقت وقد ربط المشايخ لساني، وصنع لي جهابذة الشعبة الثانية والثالثة والرابعة والعشرون خازوقاً من رصاص دقه الرفاق في مؤخرتي حتى تقيأت تاريخ وطني من عدنان وقحطان إلى أن دمره الزعران.
الحلم في بلادنا يا صديقتي كمثل بيت الرب الذي يحرسه الفُجار ويمنعونه عنا زاعمين أنه لمن استطاع إليه سبيلا.
حتماً رأيتني في يقظة؟
لا، يستحيل ذلك، فقد ولّى زمن آخر يقظة قبل أن يولد جدي التاسع والتسعين، ونام التاريخ بعدها ولم يوقظه أحد، ونمنا معه وما فاز النوّم، وكنا من الخاسرين، لكن أين رأيتك يا تُرى؟
سأخبرك بشيء يا صديقي، لم يعد مهماً أين ومتى التقينا، كل ما يهمني أنك هنا الآن فلا تعد للاعتذارات، أرجوك بسم الرب أن تكف عن الاعتذار.
اسمحي لي هذه المرة فقط أن اعتذر.
لماذا تعتذر؟ وهل بقي ما تعتذر عنه بعد كل ذاك الذي قلته.
نعم لدي، أريد أن اعتذر لأني استرقت النظر إلى مفرق نهديك في غفلة منك، أعذريني لاتساع حدقتي عيني فهي المرة الأولى التي أرى فيها نهدين يجلسان القرفصاء بلا سُتيان..
أعذري جهلي فقد جئتك من بلاد تحار فيها الأنثى أين تهرب بلجام نهديها حين تغسله..من بلاد ترى في اللجام عورة..وفي النهد زائدة دهنية يجب استئصالها خارج السرير، جئتك من بلاد يُطلق أهلها سهامهم على الحلمات النافرة، ويرددون السور القصار على المؤخرات التي يسكنها شيطان الرغبات، جئتك هارباً بشيطان حروفي من بلاد تعلمت وأد الكلمات كما كانت تئد البنات، وتسبي الأميرات وتشنق كل من نادى بكسر أغلال العبودية وإطلاق الحريات.
عن كل ذلك اعتذر.
صديقك فراس.
مجلة قلم رصاص الثقافية