محمد جيجاك |
كلوحٍ خَشبي ميت رمتني الرياحُ على سَفحِ ماءِ نهرٍ عريضٍ، يُأرجِحُني تيارُ الماءِ كسكيرٍ مترنحٍ ينفضُ عن روحَهُ فائضَ الثّمالةِ. الخشبةُ أصلُها جِذعَ شَجرةٍ كانت ذاتَ عمرٍ ترتدي ألوانها في مواعيدٍ ملائمة لا تُخطِئها. كانَ للشجرةِ أذرعاً وفقَ موازين ثِقَلِ الطيورِ، تمدُّها للريح أسرةً لاستراحاتها من تَعبِ وسع الفضاءِ وأُرجوحةً لطفلٍ في المهدِ رَضَخَ لرغبة أمهِ في إزاحة بكائهِ عن ظهرها قبل آوان دور أباهُ في اتخاذِ ظَهرَها وسادةً لرأسهِ. كنتُ جذعاً سامقاً في جسدِ الفضاءِ ومتاهات الوقت الذي طاب لي مراوغته في كوارثه المباغتة، فجأةً وعلى دراية مني جزّوني بمنشارٍ فائق السرعة، لا يفقه من الأوامر إلّا ما تلفظ رقماً، والرقمُ في قاموسِ المفرداتِ رملةٌ صلبة، بلا حسٍّ، لا تلين أمام التوسلات، ولا يراهنُ على مسارِها إن تدحرجت صوب هواها.
مضى عامان على تيهي البليد في بلدٍ لم أكن حراً في خيار مجيئي إليه، أستجيب لنزقي وأسلّم روحي للفراغ لتتقاذفني موجات الضياع من زقاقٍ لزقاق في مدينة صغيرة على مقاس بضع ابتسامات حين الزحام، كل فضوليّ ينظر في الوجوه لا بد أن يتلقف حصته من بشاشة الوجوه العابرة، أمّا الغريبُ فينالُ حصّتهُ من حيادية الوجوه المبطّنة بالإزدراء، كأنه نشاذٌ في معزوفة الوقتِ وخطأٌ مقصودٌ ارتكبه الله في رواق مزاجهِ، شفاههم تتقنُ رسم الابتساماتِ بذاتِ تقنية إمرأة الإعلانات على لوحةٍ دعائية لمُنتجٍ مشكوكٍ بجودتها. أستلقي تحت شجرة الرصيف حين يكون ظلّها على مقاسِها، أرتادُ صمتي وأنا شاردٌ أُحصي الفراغات المتجاورة بين أوراق ضاقت برصانة هندستها فمالت لجهة ثِقل روحها، أتربص بهطولِ لحظة صفاءٍ من أرقِ التيه لأتصالحَ فيها مع نفسي ومع الآخرين الذين لا أعرفهم. أعود لبداية الجولة بهدف مختلف عن سابقاتها، أبحث عن مقهى رخيص قذر كما مقهى الموعد في حلب، لا يهمني إن كنت أعرف أحداً فيها أو لا، لا يهمني إن كان أحدٌ في انتظاري هناك أو لا، لا يهمني إن توقعت قدوم أحداً أعرفه أو لا، ما يهمني أن لا يحدّق بي بخبث زبونٌ كما كان يحدّق بي رجل أمنٍ منتحلاً صفة مثقفٍ في مقاهِ بلدي، ما يهمني أن لا يسألني فضوليّ، من أين أنتَ؟ لما أنت هنا؟ ما يهمني أن أجلسَ خلفَ نافذة الواجهة وأعدّ المارين بينما أفكرّ بأشياءٍ لا صِلة لهم بها.
الطريقُ الذي لا ذاكرة لديه عن وقعِ أقدامكَ ستسير فيه مترنحاً رغم يقظة حواسكَ الست. هكذا ترتبكُ قدمي اليسرى في تقدير مسافة أختها. يقودني تعثر خطوي لأمام تمثال Löwendenkmal حيث المكان المفضلّ لصديقتي الأرتيرية، التي كلّما شدّها الشوق للغياب مرّت لتلقي نظرة الوداع الأخير على الأسد الملقى في اضطجاعه الأخير، الذي تحجّر الرمح الخشبي في خاصرته فتحجّرت روحه على ابتسامةِ ألمٍ أبدية، نتبادل التحية بعربية ركيكة ونُكمِل الحديثَ بألمانية أكثرَ ركاكة، ونعتذر من بعضنا لعشر مرات في كل لقاءٍ عن جهلي بلغتها التغرينية وجهلها بلغتي الكردية، تصادقنا في شارع “ بيلاتوس” جمعتنا الصُدفة أمامَ واجهة محلٍ فاخرٍ، كنّا ننظرُ للزجاجِ الذي يَعكسُ صورتينا ثم ينظرُ كل منا لوجهِ الآخر مستغرباً، لمسنا أنّ ثمّة عدمُ تطابقٍ بين الصورة على الزجاجِ ووجهنا في الواقعِ، ابتسمنا لاكتشافنا الخدعة ثم ولجنا أقربَ مقهى لنتداول النظر في وجه بعضنا. في كل لقاء تكررُ صديقتي السؤالَ ولا تنتظرُ مني الإجابة: لماذا صورتنا في مرايا هذه المدينة لا تشبهنا؟ أقول لها : هكذا هي المرايا التجارية المخادعة، تعكسُ ما يُطيب لها. تضحكُ صديقتي وتقول بحزن : نحن بضاعة بلا زبائن، طغاتنا عرضونا على الأرصفة الغريبة للبيع ولم يحاصصونا الثمن. أردّ : صدقتِ يا ابنت بلاد الزيلع، تتجهمُ في وجهي مُستنّكرة تحريفي لنسبِ بلادها، تقول معترضة : أنا ابنة ارتيريا، ارتيريا الأغريقية وليس زيلع العربي. أسألها وما الفرق بين هذا وذاك، ربما مرّ بأرضكم صينيّ وأطلق على تلك البقعة المنسية أي اسم آخر؟ تبتسم لي صديقتي الأرتيرية المسماة ب “ Abraha “ أقدمُ ملكٍ خاضَ جدلاً عادلاً لأجل معرفة حقيقة الربّ، قالت بنبرة مهزوم: أنت شيطانٌ تأتي الأمور من آخرها، بوجودك أشعرُ أنّ الأرض كالفضاءِ بلا حدود، بلا منغصات في تضاريسها، بلا مفردات تحيّرني في دلالاتها، بلا إله يحيلني لجهة مقدسة لأدير ظهري للجهات الأخرى، بلا ألوان تخضعني للمفاضلة، بلا …، أُسكِتها بقُبلةٍ مُحكّمة، كنتُ قد حكتها بنسيج من الضوء وهواء البحر قبل معرفتي بها، قُبلة كانت ستنفع لأي إمراة تشبهها، أمسكُ يدها وأقول : تعالِ نسيرُ في شوارع Altstadt الضيقة دون أن ننظرَ في واجهات المحلات الفاخرة ..
– لوتزيرن: مدينة سويسرية صغيرة
كاتب سوري ـ سويسرا | خاص موقع قلم رصاص