مصطفى الزويتي |
دع عنك كل شيء، اترك كل شيء، قاوم هذا الوجل الذي يغزوك وهذه القشعريرة، واجه البياض واسترسل، استرسل.
أوه أين مداك يا هذا وأين مدادك الذي سيلون البياض، سيملأه، استرسل.
الذي مات ننعيه فننساه، والذي فات قد يعاد، لذلك هو غير قبل للنعي، غير قابل للموت.
قلت لي يوما أنك ميت من زمان، آن الأوان إذن لكي تنعي نفسك…
الذي يحييك الآن هو أنك تعتبر نفسك ميتا، وما دمت حياً، اكتب عن موتك، اكتب عن موتك علّك تكون جديراً بأن تسمي في الحياة..
لا فرق هناك بين الموت والحياة، ولا رابط أيضاً هناك…
حاول أن تفرق وتربط، حاول أن تعيش الحالتين، أن تعيشني. فأنا ذلك الراوي الذي إعتقلته في أحشائك سنين طويلة دون أن تشعر به. أنا ذلك الحكاء المشاغب الذي أولدك من جديد.. هل انتهي زمن الشعر لتجيئني هكذا؟ وكأنك قشة تبن طوحت بها الريح بعيداً؟
هل غضبت عليك القصائد وناهضتك الأبيات؟ اقصيت يا ولدي فاخترت الفرار، لا تغضب. الفرار أصبح حلاً في حضارة الجبن والوجع.. حضارة الهلاك والطاعون..
لماذا كلما وصلنا -أنا وأنت – حدود الكلام يشدنا وجع الصمت؟
على الأقل هذا ما نشترك فيه: وجع الصمت!!
أقول لك: وزع بقايا الأوجاع على أضلاعك وتعال نغرق في هذا الصمت..
البياض يا صاحبي صمت مفعم بالكلام، قاوم هذا الوجل وتلك القشعريرة وواجه البياض، إن غضبت عليك القصائد فهي وفية لأن تشهد.. وإن احتجّت الأبيات وناهضتك فلكي تنهض. إني أراك يا ولدي تضيع ضياعاً يساوي البحر كله…!
وليس في الحياة شيء يستحق أن نضيع من أجله سوى أن نكتب..
دع عنك كل شيء، اترك كل شيء، اكتب…
ربما لم يحن الوقت بعد لأفتح ملفك، لأنه ملف شائك يتطلب مني أن أذهب إلى حدود كونديرا، وأن أصارع دونكشوتاً جديدا تطلع منك راحته.. ودنجواناً فقد هويته كلها ليغرق في بن ابي ربيعة، فراح يبحث عن نساء لا بد أن تكون شعورهن طويلة، ويكن سمراوات وغجريات…
المرأة حين تريدك لابد أن تعريك، ها ملفك أمامي، يجب أن أعريه من غبار قد علق به.. غبار الشذوذ حين تفسد الأيام، لا أدري لماذا يضغط على إسم الهيفاء لأقحمه في استنهاضك؟ أحبتك كثيرا تلك البُنيّة! لكنك كنت قاسياً معها لدرجة أنك كدت أن تبكيني أو بكيت..
كنت تنشر فوق جسدها كل رغبتك وتهمس في أذنها: العالم كله ملكي..
كل رجل انتشر فوق جسد امرأة يعتقد أنه يملك العالم، هذا ما قالته لك الهيفاء يوما ولم تفهمه. وقالت لك: هل ستملك فوق جسد امرأة أخرى نفس العالم الذي ملكته فوق جسدي؟
في إحدى العشيات فارقتها وذهبت، ذهبت جريا كأنك هارب منها، ذهبت دون أن تلتفت.
ملفك لم يجهز بعد. ولن يجهز حتى تجهز أنت، فدائرتك لازالت مغلقة.. لا زال ينقصك الخيال اللازم من أجل الدخول إلى مكنونات السرد ودهاليزه…
إذا أردت أن تحكي عليك أن تكون أنت نفسك حالة حكي، حالة عشق دائم للحكي…
وما الذي عشته حتى تكوّن حالة حكي؟ الوهم إذا طال تحول إلى واقع رديء أنتجته أفكار مطاردة، أردت أن تكتب رواية فعنّ لك أن توقظني..!
ها أنا الآن أنساك لأذكر الهيفاء، لأنفض عن دنكشوتك جبن الأيام، وعن دنجوانك غرامياته العوجاء.. كم يكفيني من فوكنر كي أجعل منك صخباً؟
كل الرؤوس الآن مقطوعة، فتحسس رأسك واتبعني..
كان الوقت ميتاً عندما سمعت طرقاً على الباب، قاومت غفوة الخمول ونهضت لأفتحه، كان وجهها باكياً وباسماً في نفس الوقت، هي كانت هكذا، امرأة اللذة والفرح والعذاب، امرأة لا تحتاج لثقب الناي لتعزف لحنها الخالد والمقصود، لا تحتاج إلى شجرة تتسلقها من أجل أن تأخذ القمر بين يديها..!
نعم، كانت عندما يغضبها البشر تأخذ القمر كله ليبقوا في الظلام، أنا وحدي كنت أستضيء بهذا القمر، كان يخفف من ضوئها، وكان عزف الناي يغطيني..
الوقت الذي مات عندما سمعت طرقاً على الباب يحيا الآن، يرقص، ويكاد يكون بروستيا…
ما كدت تحس أني أغيظك حتى سارعت إلى كتابة هذا المدخل، قتلت الوقت عندما سمعت طرقا على الباب، وقاومت غفوة الخمول من أجل أن تجعلني وجهاً لوجه مع هذه المرأة التيتانيكية التي تأخذ القمر بين يديها لتقلب ليل البشر ظلاماً ويبقي ليلك وحده منيراً…
وأحييت الوقت الذي قتلته في البداية، هل تكفينا امرأة مثل الهيفاء لكي يرقص الوقت؟
لا تتعب نفسك في الرحيل من وقت يموت إلي وقت يرقص، ولا حاجة إلى أن تزعج بروست، دعه نائماً في قبره، فهو لن يجد أكثر منه طمأنينة ودفئا، فلا وقت يموت ولا أنت تصل إليه..
أما الهيفاء، عشتروت الزمن الإلهي، فأنا لا أنكر أنها كانت تبعثرني، وكنت أقول: ليتني كنت مكانك لأعطيها حقها الذي أخفيته في غفوات خمولك، وكنت كلما ذكرتها تبلغ حالة الانتصاب…
كنت تركض إليها، وحين تبلغ ما تريد تقول لها: اذهبي أريد أن أنام، لأنك تعلم أنك لن تنام إذا بقيت، وكانت تذهب لتعيش حيرتها من رجل لا يعيش وقتها وهي من أجله عاشت كل الأوقات، رحبت بأي مصير و رضيت عن كل قرار…
كنت دائماً اقرأ من أجلها “أشهد ألا امرأة إلا أنت” لنزار قباني، فتعانقني وتقول: وأنا أشهد ألا رجلا إلا أنت..!
حين فتحت لها الباب قبلتني وجلست. قالت أنا متعبة يا…….، جلست بجانبها وقلت: ما بك أيتها الهيفاء، كان وجهها شاحباً بالفعل، استلقت على السرير فتجلت تقاسيم جسدها الجليل كأنه شعر الخنساء…
قلت لها نامي قليلاً، جئتها بكأس ماء، لم تشربه وظلت تنظر إلي، كانت نظرتها مزيجاً من الحنان والعتاب واللذة، كانت تعذبني تلك النظرة، وها أنا الآن افتقدها.. لذلك لا زلت مصراً على قتل الوقت، ولا زلت مصراً على أن أعيش معك هذه المتاهة التي أوقعتني فيها دون أن تعلمني، وليكن فأنا سيد التائهين….
لئن كنت تريد أن أدع كل شيء واسترسل، سأفعل. ولئن كنت ستثقل رأسي بحديثك عن النعي والموت والحياة، سأتحمل… سأتحمل حماقاتك، كل حماقاتك، لكن، تريث قليلاً لتبحث لنفسك عن هوية، فأنا لا أعيش من لا هوية له، جعلت من نفسك الحكاء المشاغب، واتخذت من أحشائي لك مسكناً، بل أولدتني وجعلت مني شريكاً لك في وجع الصمت…
يا ألطاف الله. ما هذه الوقاحة، تطاولت على الشعر لتشرعن وجودك، ها ها!
غضب القصائد واحتجاج الأبيات وساويت ضياعي بالبحر كله، لم يعد في الوقت متسع لاستعادة ما كان أيها الراوي، لذلك لا زلت مصراً على قتله ما دامت الهيفاء غائبة، لأنه يحيا عندما تطرق بابي، إنه يرقص، هل أنت قادر على أن تنتزع من طرقة باب رقصة وقت ؟؟
كاتب من المغرب | خاص موقع قلم رصاص