لنتوقف لحظة قبل أن يأخذنا الحال ونبدأ في حلحلة المسألة، والبحث عن مبررات ننكشها في ثنايا “الغرب” من أخطاء وخطايا، ليس في حقنا فقط بل بحق كثير من شعوب الأرض، التي عانت من الفجع الإستعماري وما يرافقه من وحشية ـ حتى أن “الغرب” نفسه عانى من نفسه حربين عالميتين بشعتين، وهذا لا يغيب عن بال عاقل، كما لا يغيب عن باله طريقة رد الظلم ومعرفة أسبابه وزواريبه.
لنكن واضحين وصريحين مع أنفسنا كي نشخص ما نحن به تشخيصا صحيحاً فالمشكلة بالضبط وفي العمق هي مشكلة ثقافية يؤسس عليها عنف أعمى، يضعنا على مفترقين واضحين، إما الهمجية وخسارة الروح الحضارية التي تعبت البشرية ولما تزل في إنشائها وتطويرها، وبالتالي البحث ثقافياً عن مبررات تخفيفية تتكىء تارة على الإستعمار وتاريخه البشع وتارة على القيم الغربية المعولمة وإلى ما هنالك من الخزعبلات الحلزونية، وإما الإعتراف بكل وضوح وصراحة وعلانية، أن الفطرة القابيلية لما تزل تسري في عروقنا الثقافية، وأن لا سبب لقتل الآخر تكراراً وبهذه الطريقة الغزووية، سوى الإختلاف، وما يتبعه من معيرة حقوقية تبيح القتل.. قتله هو الآخر.
لقد سفح الكثير من الحبر في الإضاءة على ذنوب الغرب الإستعمارية، وها نحن لسنا بغنى لا عنه ولا عن استعماريته، كما سفحت الكثير من ساعات البث حول التأكد من مشروعية أحكام القتل هذه أم لا، ولكن لم يدنها أحد من الذين يعلمون. ولكن المشكلة هي مع المثقفين “الحداثويين” الذين يوازون التراثويين المعذورين ثقافياً في عدم تمكنهم من إدانة الجرم علمياً على الأقل، فهؤلاء المثقفون يعتبرون أن القتلة يقاتلون معركتهم (وإن كانوا لا يعونها) إنتقاماً من خطايا الإستعمار وبشائعه، حيث يدخلون برجليهم ـ وبوعيهم الزائد عن المطلوب ـ مفترق الهمجية، دون أن يدروا أو يدركوا أو يستنتجوا، أنهم يورطون ملايين الناس بمأزق أخلاقي، بالإضافة الى التأكيد للقتلة أنهم على حق دنيوي أيضاً، وهكذا تصبح جريمة سفاح نيس (وغيرها) موضع شبه تصح فيها الأسباب التخفيفية على الأقل، إذا لم نقل محاكمة الضحايا لأنهم من أبناء الإستعمار ويتنعمون بخيرات سرقاته.
هل علينا أن نتخلى عن آدميتنا، لأننا لا نستطيع مقاومة الإستعمار، أو لأننا لا نستطيع الإستغناء عنه بأشكاله الحديثة؟ هل نريد أن نتخلى عن أية قيمة حضارية وندخل في أطوار الهمجية لكي نرضي شبقنا للغزو؟
سفاح نيس وسابقيه ولاحقية، يقتلون المختلف بغض النظر عن نوع الإختلاف وكميته، ولسبب أنه مختلف فقط، كما لو أنه وجد للقتل فقط، ولم يحدث قط أن تمت هذه الجرائم الوحشية بسبب الوعي بالإستعمار، الذي حدث هو أن هناك من تخيل أن الطائرة المدنية هي صاروخ حربي، وأن الشاحنة التي تنقل البضائع والتي قد تعرض الإنسان لخطر الحوادث والدهس في المصادفات المؤسفة، رأها أداة للقتل، إنها نظرة مشوهة تنتمي الى ثقافة شوهاء، وإلى أخلاق منحطة، فهكذا تصورات هي تصورات خارجة عن الحضارة على الأقل.
من جهة أخرى تحول الإستشهاد الى معلكة ومسخرة وتم تفريغه من محتواه الراقي عند الدفاع عن الوطن والمجتمع ضد الإستعمار والظلم أيضا، وفي هذا إساءة عميقة لقيمة رفيعة كهذه، وفيها تحلل من كل إستحقاقات المواطنة بما تعنيه من تنظيم وعلنية للحقوق والواجبات.
من جهة أخرى تنتصر الشفاهية كلغة على اللغة التعاقدية المسؤولة التي يتسالم بها الإنسان (أي الكائن البشري) مع محيطه تأسيسا لتقاسم المصالح حتى ولو بطريقة المنافسة، فمن كلمة على شاشة أومنطلقة من كاسيت أو (سي دي) أو (إم بي فور) يقتل المئات، ولا مسؤول واضح، إلا تلال من الكلام التعبوي التحريضي مرفقاً بتهديدات بعقاب مرير.
لقد مرت البشرية بهكذا ثقافات تلغي الآخر، في عصور مضت وفي بلدان نهضت، بعد أن تخلت عنها، لأنها وعت أنها دفعت الكثير دون طائل، وها نحن وبرعاية خاصة من مثقفينا المعاصرين نتهيأ لتلقي الصفعة المليون على حين غرة، ولن نرعوي.
المشكلة بوضوح هي قتل الآخر لأنه آخر فقط، وهي ذهنية عمومية نعيشها كحوار يليق بالقرن القادم.
مجلة قلم رصاص الثقافية