بدر أحمد علي | كان ذلك في العام1978، في سهل البقاع اللبناني، حيث السهل يصارع البصر، ويقضم بامتداداته كل المسافات التي قد يتخيلها شخص أتى من سفوح الجبال.
هناك، في منطقة قريبة من بلدة عرسال اللبنانية، أقامت فصائل الثورة الفلسطينية، معسكراً تدريبياً تحيط به التلال من ثلاثة اتجاهات، يضم المعسكر 225 ثائراً ومقاوماً أممياً، من قوميات وجنسيات مختلفة، يجمعهم في هذا المعسكر الإيمان العميق بعدالة القضية الفلسطينية، وبالحل الراديكالي، كحل منطقي ووحيـد، لهذه القضية.
في ذلك المعسكر، الذي أعد جيداً، كنا نتلقى تدريبات على حرب العصابات، على يد خبراء ألمان شرقيين، أرسلهم الرفيق هونيكر، لتدريب أفراد المنظمات الفلسطينية. كانت التدريبات مكثفة وعنيفة ولا تنقطع.
وفي خضم كل ذلك، التقيتها؛ فلسطينية يافعة، قضت معظم طفولتها في الأردن، ثم غادرته عقب كارثة أيلول في ال71، بمعية أمهـا وأخواتها الثلاث، واستقرت في الكويت.
“مريم”، هكذا كان اسمها، أخذت عن والدها ابن “الجليل”، الذي لقي حتفه في أحداث أيلول71م، إيماناً صلباً بعدالة قضيتها، وبقدسية نضالها، وأخذت عن أمها، ابنة بلدة “دير الأسد”/ عكا، جمالاً لم تتمكن شموس وأشـواك وصخـور المعسكرات من النيل منه أبداً.
حين تقف أمامها، محدثاً أو مستمعاً، فإنها تتحول إلى بحيرة مغناطيسية، بلباس زيتوني، تبتلعك، تهضمك، تحللك، ثم تمتصك، ثم تنفثك في الأخير، في الهواء، كغبار فلزي يسبح في مجالها المغناطيسي المتوحش، إلى الأبد!
في البداية تحاشيتها كثيراً، وتحاشيت الحديث معها؛ فمنذ اللحظات الأولى التي رأيتها فيها، أدركت أي نوع من النساء هي، وأي كاريزما تحمل! لكني، وعلى غير موعد، وجدت نفسي في طريقها، أو وجدتها في طريقي، لا أتذكر، إنما ما أتـذكره أني كنت أسبح في فلكها، مسلوب الإرادة والتفكير!
في ليلة سوداء معتمة، كنا معاً نجلس تحت شجرة أرز معمرة. كانت تدخن، وتحدثني عن رواية “آنا كارنينا”، بإسهاب جعلني على يقين من أنها تحفظها عن ظهر قلب، كما تحفظ كل ما كتبه الأدباء السوفييت.
أثناء حديثها، كنت أحدق في السماء المطرزة بالنجوم. وحين بدأت أسأل نفسي عن مذاق شفاه الفتاة المدخنة، خُيِّل لي أني سمعت هدير مروحية هيلوكوبتر. أخبرتُ “مريم” بذلك، فلم تُجب، بل إنها تجاهلت كلماتي، وعَاودت تدخينها، وشرحها المسهب. وبعد ربع ساعة تقريباً، غادر كل منا إلى خيمته. وبعد ساعة تماماً من ذلك، تناقلت أجهزة الاتصالات بلاغاً مفاده أن قوة كوماندوز “إسرائيلية” هاجمت بيروت، واغتالت مصطفى الزعيم، أحد القادة السابقين في منظمة “أيلول الأسود”.
كان الخبر صادماً، وكارثياً على الجميع. ورغم ذلك، تم إخلاء المعسكر، وحمل كل فرد منا سلاحه وعتاده، واستعددنا لصد أي هجوم “إسرائيلي” على مواقعنا؛ لكن تلك الليلة مرت بهدوء، وفي ساعات الفجر الأولى، تأكدت لنا العملية، من مصادر عدة، أبرزها أثير الإذاعات العالمية.
أتذكر يومها أن “مريم” قضت بقية يومها باكية في مترسها النائي، الذي يقع على هضبة منعزلة. حاولتُ الاقتراب منها، والتحدث إليها؛ لكنها كانت عـازفة كلياً عن الكـلام.
في اليوم الرابع…
كان الهدوء قد عاد إلى الأنحاء، وبدا أن بقية اليوم ستمر رتيبة كبقية الأيام. كُنت حينها أقف بجوار مبنى المكتبة الخاصة بالمعسكر، رفقة أربعة من الرفاق، منهم مقاتل فلسطيني يدعى “صلاح صلاح”، وكنا ندعوه “أبو صلاح”. كان مقاتلاً صلباً لا يعرف خطوطاً حمراء، ولا يعرف الخوف طريقاًالى قلبه، يدمن القتال وحياة المعسكرات بالقدر ذاته الذي يدمن به الاطلاع واستحضار الأرواح. نجا بأعجوبة من حادثة “عين الرمانة”، وعاد وحيداً بعد عدة عمليات قام بها في عمق الأراضي المحتلة مع رفاق من الثورة الفلسطينية. كان يقول دائماً إن بينه وبين الموت خصاماً أزلياً، وأنه يتمنى أن يموت أو يستشهد على أرض فلسطين، كما كان يحتفظ في جيب سترته العلوي بدفتر أحمر صغير يدوِّن فيه يومياً نقده اللاذع لذاته ولأدائه. كنا سندخل المكتبة، وسأجري معه حواراً لصالح إحدى الصحف التي تعنى بالثورة الفلسطينية. حين فتحنا باب المكتبة دوى في أرجاء المعسكر صوت صافرة طويل. كانت تلك الصافرة الطويلة تعني أن على كل فرد التوجه إلى الساحة حـاملاً سلاحه، والاصطفاف في وضع انتبـاه.
ترك كل فرد في المعسكر ما كان فيه، واتجهنا إلى الساحة. وفي أقل من دقيقة كانت جُل قوة المعسكر في الساحة. وقفنا في خطوط متوازية منظمة. مضت بضع ثوان من الترقب. أذكر أن العيون بدأت تسافر بقلق بين الوجوه تبحث عن إجابات على الأسئلة التي احتشدت في الرؤوس وعلى الشفاه. لم يكن أحد يدري إن كان هذا الاستدعاء تدريباً، أم تكليفاً بمهمة، أم أنه اختبار للجاهزية القتالية للأفراد!!
أتذكر حينها أني كنت حائراً، قلقاً، متوجساً. هدأت الهمهمات، وهدأت خشخشة السلاح. هبت ريح باردة سرت على إثرها قشعريرة باردة في جسدي. أحدهم خلفي سعل مرتين، آخر تنحنح ثم همس بشيء ما… كانت العيون مُسمرة على غرفة القيادة، التي تقع في الجهة المقابلة من الساحة. كنا نتوقع أن يخرج قائد المعسكر. كان بابها مفتوحاً، والريح تعبث بعلم فلسطيني حائل الألوان ينتصب على سارية أمامها، وتعبث أيضاً بصحيفة بالية مرمية أمام بابها. شيء غريب اختلج بداخلي! تعالى دوي بعيد في السماء. دارت الأعين القلقة باحثة عن مصدره. علت الهمهمات. حين أصبح الدوي أكثر وضوحاً، أشارت الأصابع الحائرة إلى السماء، إلى التلال المجاورة، إلى الأشجار البعيدة… غادرت “مريم” صفها، واقتربت نحوي،وقبل أن تقول شيئاً شاهدنا في الأفق البعيد نقطة معلقة بين السماء والأرض. لم تكن تلك النقطة سوى طائرة هليوكوبتر “إسرائيلية” في وضع استعداد قتالي. في الجهة اليمنى من المعسكر كانت تقف طائرة هليوكوبتر في الوضعية نفسها. دارت الأعين بذعر بين الطائرتين المعلقتين بين السماء والأرض. وقبل أن يقرر الكثير منا الاحتماء، شاهدت وميضاً ينبعث من أسفل الطائرة. بعد ذلك بأجزاء من الثانية، اندفع سيل من الرصاص الملتهب شق السماء ثم ضرب الأرض بعنف، ثم شق طريقه على الأرض نحو الأجساد التي شلها الذعر والذهول. شاهدته يضرب الأرض… لا، لا… لم يكن يضربها فقط؛ كان يحفرها، يحرثها بقوة، ناثراً الحصى والتراب والشرر في الهواء، ثم انقض على الأجساد المذهولة، ضربها، مزقها، نثر أشلاءها ودماءها في الهواء… عبر سيل الرصاص على بعد أمتار مني؛ لفحني الشرر والتراب المتطاير. تعالت في أنفي رائحة الدم والبارود.
أمسكت بيد “مريم” وجذبتها ثم بدأنا نعدو وسط الأجساد والغبار والأشلاء، نتجاوزها، نصطدم بها، نتعثر بها… في تلك اللحظات بدا المعسكر سرمدي الامتداد، وبدت ساحته مكتظة بآلاف الأجساد، لا أدري من أين أتت!! بصعوبة بالغة قطعنا خمسة أمتار فقط. في تلك اللحظة فتحت الطائرة الثانية نيرانها. كانت أشد قرباً من الأولى. سمعت أزيز الرصاص. سمعت خشخشة ظروفه الفارغة على الأرض. سمعت صوت اختراقه للأجساد، وصوت تفجيره للرؤوس. عبر وميض الرصاص بجواري. شاهدته يخترق أجساداً أمامي وجواري. تناثرت دماء أحدهم على وجهي ورقبتي. لم نتوقف عن الركض. كان الرصاص يلاحق الأجساد بإصرارغريب، ونادراً ما كان يخطئ هدفه. لم ألتفت نحو أيٍّ من الطائرتين؛ لكني أتذكر أني حينها تخيلتهما تقفان في سماء المعسكر على علو منخفض، وتطلقان نيرانهما الغزيرة بأريحية على أفراد المعسكر. أتذكر أني أيضاً شعرت وكأننا قطيع من الغنم حُشر في قفص محكم الإغلاق، ثم أدخلت عليه سكاكين القصّابين دون أن يملك أحـدها أدنى فرصة للفرار من الموت!!
ألقيتُ بجسدي في أول خندق تدريب قابلني. تبعتني “مريم” بأقل من ثانيتين. ضرب الرصاص الملتهب حواف الخندق. تناثر التراب على وجهينا وجسدينا. تحررت من أسر ذهولي. التفتُّ نحو “مريم”. رأيتها تلهث وهي تجثو على ركبتيها. كانت تمسك ببندقيتها. وقبل أن أتفوه بكلمة واحدة، جذبت إبرة بندقيتها بسرعة ونهضت واقفة تطلق النار بكثافة نحو الأفق. وحين انتهى مشط رصاصها، جلست في قاع الخندق، ثم أخرجت مشطاً آخر استبدلت به القديم وجذبت إبرة بندقيتها… صرخت بها:
- ماذا تفعلين؟!!
لم تجب، ولم تلتفت، بل وقفت مرة أخرى ورفعت بندقيتها بيد واحدة، وراحت تطلق النار بكثافة، بغضب، بكراهية، بإصرار عجيب لم أشاهده في مخلوق أبداً. كان عملاً مجنوناً؛ نعم، كان كذلك؛ فالطائرتان كانتا تمطرانأرضالمعسكر بالرصاص؛ لا، ليس أرض المعسكر فحسب، بل وكل شيء يتحرك. سرتُ منحنياً نحوها وأمسكت بيدها. نفضتْ يدي جانباً ثم استبدلت مشطاً آخر وعادت لإطلاق النار. أتذكر أن بندقيتها أطلقت عشر طلقات فقط ثم توقفت عن إطلاق النار. انحنت “مريم” في الخندق وحاولت عبثا إعادة “تذخير” بندقيتها أو انتزاع مشط الرصاص منها. في تلك اللحظة شاهدت ملامحها تختلج وتتأرجح بين الغضب والقهر. وفي ذروة غضبها ذاك، أطلقت شتيمة بذيئة، ثم أمسكت البندقية من ماصورتها وطـوحت بها بغضب نحـو السـاحة الملتهبة.
أتذكر أنها في تلك اللحظة جثت على ركبتيها لاهثة تجهش بالبكاء وتحدق بذعر في كفها اليمنى المرتعشة. أتذكر أيضا أنني في تلك اللحظة رأيتً لحم كفها ملسوعا… لا، لا… لم يكن ملسوعاً، بل كان محترقاً ومهترئاً. انتزعتُ شالها الملفـوف حـول رقبتها ولففت به كفهـا بسـرعة.
فجأة، دوى صوت صفير طويل في المكان، تبعه صوت انفجار قوي في مبنى القيادة. تناثرت الحجارة في الهواء، ثم تساقطت على ساحة المعسكر. جلست “مريم” في أرض الخندق. اقتربتُ منها. هزت المكان انفجارات أخرى عنيفة. استقبلنا التراب والحصى والدخان، واستقبلنا بضع طلقات ابتلعتها أكياس الرمل. أتذكر أني صرخت بها:
- لنغير مكاننا!
سرنا بضعة أمتار في الخندق. صاروخ سقط على عربة مصفحة كانت متوقفة تحت شجرة قريبة. كان الانفجار قريباً منا، وكان أيضاً قوياً وعنيفاً، دفعتنا موجته إلى الخلف. سقطنا على الأرض وتهاوت على جسدينا الأتربة وأكياس الرمل.
لا أدري متى انتهى كل ذلك، ولا متى غادرت الطائرتان!! ولا أذكر أي شيء بهذا الخصوص، ولا كم لبثتُ أسفل التراب وأكياس الرمل!… لكني حين فتحت عينيَّ وجدت صعوبة في التحرر من كل ما ينوء به جسدي من أثقال. وحين فعلت، انتشلت جسد “مريم”، الذي يرزح تحت أكياس الرمل. كانت فاقدة للوعي، وكان التراب المعجون بالدم يغطي وجهها وشعر رأسها ورقبتها. ضربت بكفي على خدها مرات حتى استفاقت. أذكر أنها حين استعادت وعيها شهقت شهقة طويلة ثم سعلت وبصقت عجينة سوداء من فمها. أسندتها إلى جدار الخندق، وأخرجت رأسي بحذر من حافة الخندق المدمر؛ كنت أود أن ألقي نظرة على الخارج، لأعرف ما جرى، على الرغم من أن شعوراً عميقاً بالخوف يختلج بداخلي. أتذكر حينها أني لم أستطع أن أمنع يديَ من الارتعاش، ولم أستطع التخلص من جفاف حلقي. من خلف أكياس الرمل الممزقة أرسلت ناظري نحو ساحة المعسكر. كانت الأدخنة ما زالت تنبعث من هنا وهناك. و الأجساد الممزقة متناثرة في كل مكان. الدماء تغطي أرض المعسكر ببقع سوداء متقاربة. رائحة الموت والدم والشواء تسيطر على كل شيء. وقفت “مريم” جواري مترنحة بوجهها المدمى. حاَوُلت أن تخرج من الخندق؛ إلا أني منعتها. أتذكر أنى قلت لها جازماً:
– ابقي هنا… لم ينجُ أحد!!
في اليوم التالي لتلك المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 222 مقاتلاً، قررتْ فصائل الثورة الفلسطينية نصب مضادات للطائرات في المعسكر وفي الأماكن المطلة عليه. بعد ثلاثة أسابيع من ذلك كنت و”مريم” نقف كشاهدين أمام لجنة تحقيق شُكّلت من فصائل الثورة الفلسطينية. كانت اللجنة تحقق في أسباب المجزرة المريعة وتحدد المسؤوليات
بعد شهر وثلاثة عشر يوماً نشرت اللجنة نتائج تحقيقها في تقرير مكون من167 صفحة، أكدت فيه وجود خيانةفيقيادةالمعسكر،أفضتإلىتجميعالمقاتلينوتقديمهمعلىطبقمنذهبللطائرتينالمغيرتين. ثم اختتمت تقريرهابقائمة تضم أسماء القتلى. حين تصفحت أسماء من سقطوا في تلك المجزرة، لم أجد اسم “صلاح صلاح” إطلاقاً. كان هذا يعني أن الموت قد تركه أيضاً هذه المرة، وأنه (صلاح) سيكرر في مكان ما جملته باسماً:
– بيني وبين الموت خصام أزلي!
بالمناسبة، “صلاح صلاح” نجا بأعجوبة من مذبحة “الكرنتينا” في الـ76، و في الـ82سيصاب بجروح خطيرة في معركة “المتحف”أثناء مشاركته في التصدي للاجتياح “الإسرائيلي” لبيروت. وحين كان يقضي فترة علاجه من تلك الإصابة في مخيم “صبرا”، نجا بأعجوبة من حائط إعدام نصبته المليشيا المسيحية في المخيم. أتذكر أنه روى لإحدى الصحف اللبنانية قصة ما جرى في المخيم، وأكد في روايته تلك أنه رأى “إيلي حبيقة” ذاته يقـود جيباً عسـكرياً “إسرائيلـياً” بمعية المليشيا التي اقتحمت المخــيم.
“صلاح صلاح”، ذلك المقاتل الشرس الذي استعصى على الموت، أو بالأصح منحه الموت أكثر من فرصة ليعيش عيشة هنيئة بعيدة عن صخب الحرب، سيلقى حتفه بعد ذلك بسنوات طويلة في إحدى الأسواق الشعبية في الدار البيضاء بالمملكة المغربية، إثر طعنة بمفتاح براغٍ سددها إلى قلبه مراهق أمازيغي عن غير قصد، أثناء محـاولته فـض شجـار عـــارض بين مراهقـين يصطادون السيّاح الأجــانب.
لا أدري خلال تلك السنوات الطويلة كم تخطاه الموت، وكم ابتسم “صلاح صلاح”، وكم كرر جملته الأزلية!!
II
بعد تلك الحادثة/ المجزرة نُقلنا إلى معسكر آخر في البقاع، كانت تستخدمه الجبهة الشعبية – القيادة العامة مقراً لها. حين وصلنا المعسكروجدناهخالياً، ومجهزاً لاستقبالنا. كنا حينها 150فرداً. بعد ذلك بشهرين أخطرتني “مريم”، في مساء يوم سبت بارد، بأنه تم اختياري لإجراء لقاء صفحي مع الرفيق “أبو ليلى”، “جمال خضر”، أحد القادة الميدانيين لحركة فتح في بيروت الغربية. في تلك الفترة، كانت الأوضاع مأساوية في لبنان، والحرب على أشدها، وهناك حديث يدور في الكواليس عن تدخل واسع للقوات السورية، تدعمـه بعض الفصـائل الموالية لها، وتعـارضه أخـرى تعـارضها.
في صباح الأحد، غادرنا المعسكر في البقاع، متجهين نحو بيروت، على متن “لاند كروزر” تابعة لمنظمة التحرير، تقودها “مريم”. وقبل أن نصل إلى الضاحية الجنوبية، توقفنا عند حواجز تنصبها بعض الفصائل الفلسطينية الموالية لسوريا. كان الجنود في تلك الحواجز يحاولون استفزازنا بشتى الوسائل: حققوا في هوياتنا، نبشوا حقائبنا، نقبوا في كل إنش في سيارتنا؛ لكننا تجاهلنا كل ذلك وغادرنا. لكن، على مشارف بيروت، توقفنا أمام حاجز طيار للجبهة الشعبية، أمضى فيه الجنود أكثر من ساعتين ونصف يفتشون السيارة ومتعلقــاتنــا.
حين نفذنا إلى بيروت، بمبانيها المتلاحمة، توجب علينا التوغل في الأحياء الغربية الواقعة على خط التماس مع بيروت الشرقية. لدواعٍ أمنية، أوقفت “مريم” السيارة قبل حوالى كيلومتر من المكان الذي سنقابل فيه “أبو ليلي”، والذي كنت أجهل موقعه حتى تلك اللحظة. حملنا أسلحتنا الشخصية وعبرنا الأزقة والشوارع، وجبالا من الركام. درت بعيني في المكان. كانت البيوت مبقورة الجدران، بعض الجدران تهاوت وكشفت عن محتويات ومرافق البيوت، بعض المنازل احترقت عن بكرة أبيها بعد أن نخرت القذائف والرصاص جدرانها، بعضها تكوم سقفه فوق جدرانه وصار كتلة غير مفهومة من الباطون تبرز من جنباتها قضبان الفولاذ والأثاث ومزق الثياب… كان الدمار مريعا، ورائحة الموت تخيم في المكان. في تلك المنطقة، وعلى شعاع كيلومتر محاذٍ لخط التماس، لم أشاهد بيتا مكتملا، ولم أسمع أي صوت، عدا صوت خشخشة أقدامنـا على الأرض المفروشـة بالحطـام.
لا يمكن لأي إنسان أن يتخيل مدى بشاعة ووحشة السير في بقعة من الأرض بسط الموت عباءته عليها، ونزعت مخالبه المتوحشة قلوب وأحشاء من قضى فيها ثم ألقتها على قارعة الطرقات، تنغل فيها العيون المشمـئزة والديـدان والحشـــرات.
ما زلت أتذكر خشخشة خطواتي على الحطام، وأتذكر كف “مريم”، المعصوبة بالشاش، وهي تشير إلى هناك وهناك. كانت تتحدث؛ لكني لم أكن أسمعأو أعي ما تقوله. كُنت مذهولاً، مصعوقاً، غير مصدق. خلال تلك الفترة كنت أدرسُ الحرب من خلال دروس نظرية، أما التطبيق العملي لما درست لم يكن يتعدى أرض المعسكرات. لم أكن أتخيل أن تكون الحرب بهذه البشاعة. الأخبار والدروس والحكايا شيء، والواقــع شــيء آخـر.
أتذكـر أني في مسيرتي تلك شعرت بأنفاس من قضى تلفح رقبتي، ولمحت حدقاتهم المذعورة تراقبني من تحت الأنقاض، و سمعت أهاتهموصرخاتهم المذعورة تسافر بين الزوايا المظلمة، كما هو حال ضحكات أطفالهم. في تلك اللحظات البائسة أتذكر أني رأيت عصافير الصباح تحمل أغانيهم الصباحية، تطوف بها فوق ركـام المســاكن وعـلى النـواصي المهجـورة، ثم تعلقها على شواهـد القبـور التي نصبت عـلى عجـل.
لم تكن تلك هي بيروت. لم تكن تلك هي “سويسرا الشرق”. لم تكن تلك هي المدينة التي عشقتها كما عشقت هي الحياة. أنكرتُ الزوايا التي لطالما صافحتها. أنكرتُ النواصي والشوارع والأشجار. أنكرتُ حتى هواءهـا. أنكـرت سُحُبها، وحتى شمسها التي بـدت لي سمجــة وحزينــة…!
ارتدت عيناي ككرة من المطاط من على الواجهات المدمرة، ومن على الزوايا المظلمة، والأبواب المشرعة والنوافذ المحطمة. الخراب والوحشة والموت في كل مكان. شعرت بالاختناق، برغبة عظيمة في الصراخ، في ركل كل شيء، في البصق على كل شيء، في انتزاع بندقيتي وإطلاق الرصاص على كل شيء… في نهاية المطاف صفعني الدوار، وجدتني أتهاوى، لا لم أتهاوَ، بل تركت جسدي يهوي على قطعة باطون ضخمة، جلست عليها، ووضعت كفي على صدري، متعللا بالإرهاق والتعب. توقفت “مريم” ثم التفتت نحـوي، ورفعت حـاجبيها وقـالت بسـخرية:
– هل تعبت؟!
هززت رأسي لاهثا، ثم انتزعت مطرية الماء من خاصرتي، وأفرغت جزءاً منها في فمي، ثم حملت سلاحي وعدلت وضعية الحقيبة الجلدية التي تتدلى من كتفي، وعدت للسير، أخوض مذهولاً عباب هذا البحر المتلاطـم من الخـراب.
بعد تلك المسيرة الطويلة، أتذكر أننا وصلنا إلى أمام مبنى كبير كان فيما سبق فندقا كبيراً (لا أتذكر اسمه)؛ لكني أتذكر أن معارك شتى دارت رحاها في هذه النقطة من بيروت للسيطرة على هذا المبنى بالذات. قبـل أن ندلـف إلى سـاحة المبنى توقفنا أمـام نقطة تفتيش ثم عـبرنا إليه.
كان المبنى مكونا من تسعة طوابق، ويضم بضعة مكاتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، وغرفة عمليات، ونقاط مراقبة ورصد تطل على بيروت الشرقية وتكشف معظم أحيائها. سُدت نوافذ المبنى بأكياس من الرمل وبراميل مملوءة بالحجارة تتخللها فتحات للرصد وأخرى للقنص. خلال سني الحرب الماضية تعرض هذا المبنى لعدة محاولات تفجير، سواء بسيارات مفخخة أو عبر إمطاره بقذائف الهاون والمورتر. جُلُّ تلك المحاولات لمتفلحفيالإجهازعليه، لكنها تركته عاري الجدران، مصدعا، محفور الواجهات، خاليا من أي أبواب أو نوافذ؛ ولذلك جرى تدعيم جدرانه الداخلية بجدران سميكة من أكياس الرمل ومن القرميد، نقبت خلالها شبكة من الممرات، تمكن المقاتلين المتحصنين في المبنى من التنقل بحـرية وسـرعة في الجهات الأربـع لمـواجهة أي طـارئ.
لا أدري أي شعور يخالج المرء حين يلج إلى مكان كهذا! ولا أدري ماهية الرائحة التي تفوح في المكان!! أتذكر تلك الرائحة العجائبية، كانت مزيجاً مريعاً من الروائح، رائحة العطن، رائحة الأجساد التي لم تغتسل منذ أيام، رائحة الدخان، رائحة النشادر… وروائح أخرى لم أستطع تمييزها. المكان بمجمله مظلم ورطب يولد في النفس شعوراً عمقياًبالوحشة، ينز الموت من بين مفارق جدرانه، التي تساقطت عنها طبقة الإسمنت. المقاتلون هنا يرابطون منذ شهور طويلة. ظروف الحرب وحالة الاستنفار لم تترك لهم مجالاً لحلاقة شعر رؤوسهم أو لحاهم. الذهول و التوتر والسهاد مطبوعان على الوجوه والأحداق. هذا المكان، ونظرا لأهميته بالنسبة للثورة الفلسطينية والفصائل اللبنانية المتحالفة معها، سُمي بالمسبار، وكان يحوي كـافة التجهـيزات التي تمكنـه من أداء المهمة المرجـوة منه عـلى أكمـل وجـه.
توقفنا في الطابق الثالث. وقفتُ، ومن خلفي “مريم”. كان الطابق خاليا من كل شيء، عدا أكياس الرمل والأجساد المتحفزة والرشاشات المصوبة نحو بيروت الشرقية. اقتربتُ من إحدى النوافذ وأرسلتُ ناظري عبر فتحة في جدار من أكياس الرمل نحو فضاء بيروت الشرقية. لا أتذكر ماذا كانت “مريم” تقول وهي تشير بكفها المصابة نحو نقطة ما في بيروت الشرقية؛ لكني أتذكر أني شاهدت في البعيد نقطة سوداء تقترب نحونا على ارتفاع منخفض. أشرت نحو تلك النقطة. أخذت “مريم” منظارا من على أحد أكياس الرمـل ووضعته عـلى عينيها لثـانية أو ثانيتين،ثم ألقته بعيـدا واستـدارت راكضة وهى تصيح بصـوت عـال:
– فانتوم!…
دوت صرختها في المكان. التقطتها الآذان المدربة. أخلت الأجساد أماكنها. لحقتُ بها. الدوي البعيد يقترب ويزداد وضوحا. الأجساد تتدافع في الممرات والسلالم. وفجأة، شق كل ذلك الضجيج صوت صفير عال، ثم أعقبه صوت انفجار عات اهتز له المكان وتساقطت معه كتل الإسمنت وتطايرت الأحجار في كل مكان. دفعتنا موجة الانفجار من أعلى السلم في الطابق الثاني، واستقرت أجسادنا في بهو الطابق الأول. ضج المكان بالصياح والضجيج. تعالى الخدر في أوصالي، وبدأ الطنين يغزو سمعي، ثم ساد الصمت تماما. أظلم المكان بسحابة ثقيلة وخانقة من الغبار والكبريت والدم. نهضت، بالكاد فتحت عينيّ. شاهدت جسد “مريم” مسـجى جواري. أمسكت بيدها ثم جذبتها وأنا أصـرخ بكل صوتي:
– هيا لنغــادر.. ستعـود الطـائرة!!
لا أدري إن كانت سمعتني أم لا؛ لكني أمسكت بيدها وجذبتها بقوة، ثم ساعدتها على الوقوف والسير عبر الظلمة والحطام. على مقربة مني وقف مقاتل فلسطيني غطاهالغبار و سالت الدماء من أنفه وأذنيه. كان يمسك بندقيته بيد، وبالأخرى يشير للخارجين من “المسبار” ويدلهم في ظلمة الغبار والذهول على طريق الخروج. شاهدته يصرخ وشاهدت ملامحه الغاضبة المتحفزة، وعينيه اللتين تتحديان الموت بإصرار وتحدٍّ. لم يكن يـأبه لمصيره، ولا للموت الذي يحـوم في المكـان.
تزاحمت الأجساد عند المدخل. اخترقنا الزحام. في تلك اللحظة أكمل قائد الفانتوم التفافته فوق بيروت الغربية واستدار نحو الشرقية،غادرناالمدخلمعمنغادر،وبدأنانركضعبرالساحةالأماميةلـ”المسبار”. في تلك اللحظات كـان قائد الفانتـوم يشق طريقه بسرعة نحو “المسبار”، وإبهامهعلى الزناد. وحين وصلنا إلى منتصف الساحة تماماً، ضغط إبهام الطيار على الزناد، فشق سماء المنطقة صاروخـان عبرا السـماء بسرعــة، متجهين نحــو مدخـل “المسبار”، المكتظ بالأجســاد.
كانت الساحة الأمامية خالية من أي شيء يمكن الاحتماء به من الانفجار. كنا نركض بهلع، بهستيريا، بجنون، باضطراب، نسابق الزمن، نسابق التفافة الطائرة، نسابق انقضاضة إبهام الطيار على الزناد، نسابق صواريخه… إنه لشيء رهيب عندما يسكنك الخوف، عندما تشعر بأنك هدف، بأنك طريدة ألقاها سـوء طالعها أمـام بندقية صيـاد لا يخطئ هـدفه!!
حين سمعت فرقعة الصاروخين وهما يشقان السماء، لا أدري كيف لمحت حوض زهور جافاً يقع جوار شجرة أرز جافة أيضا. جذبت يد “مريم”، ثم دفعت بجسدها نحو حوض الزهور فسقطت فيه، ثم ألقيت بجسدي علـيها وغطيت رأسـي بذراعـيّ.
في تلك اللحظة دوى انفجار عنيف قذف بكل شيء في الهواء، أعقبه انفجار آخر نثر الحجارة وكتل الإسمنت في الهواء. أحسست باللهيب يلفح ظهري، و بموجة ضغط هائل تعتصر خلايا جسدي. غادرت الطائرة وهى تجر خلفها ذيلاً طويلاً من الضجيج. لا أذكر كم لبثنا في حوض الزهور؛ لكني أتذكر أني نهضت مترنحاً والدماء تسيل من أنفي ومن أذنيّ. سعلت ثم بصقتُ الدم على الأرض مراراً، ثم ساعدتُ “مريم” على النهوض. كان الغبار والدخان يلفان المكان. شاهدت على الأرض أجساداً ممزقة، وأخرى مدماة التوت أطرافها ورؤوسها بأوضاع مزعجة!!… بضع سيارات وثلاث شاحنات تحترق. خنقني الغبار. صيحات الألم والاستغاثة تسافران في المكان. من خلف ستار الغبار الثقيل، شاهدت أشباحا مترنحة متعثرة تشق طريقها عبر الحطام المتناثر. شاهدت أيضا مبنى “المسبار” مكوم على الأرض كديناصور ضخم قضى نحبه على حين غرة فوق هذه البقعة من الأرض. لقد انهار المبنى كلياً، نعم، انهار المبنى كلياً وسحـق تحته كل من لم يستطع المغــادرة.
كان ذلك لقاء آخر لي مع الموت. كان قريبا مني؛ نعم، كان قريباً مني إلى درجة لا تصدق، خطا بجواري، لامست أطراف أجنحته ساقيّ، ولفحتني أنفاسه الباردة. وحين غادر خلف وراءه دمــاراً وأشــلاء ودمــاء.
يومها كانت مريم تحدق حولها بذهول، بذعر، والدماء تسيل من انفها وفمها، دارت حول نفسها مرتين وهى تجهش بالبكاء، ثم جثت على ركبتيها باستسلام،و نكست رأسها و ظلت تحدق في الأرضلثوان، ثم شدت قبضتيها إلى جوارها ورفعت رأسها نحو السماء المُغبرةوصرخت في وجهها صرخة عظيمة انتزعتها من أعماق أعماقهــا.
III
اذكر ان كل تلك الأحداث تركتني مهزوزاً قلقاً مشوش الذهن، أعاني من ارق ومن نوم متقطع تتخلله نوبات مفاجئة من حمى غريبة تضربني في أوقات غير منتظمة، حمى عجيبة تشبه في أعراضهاأعراض حُمى الملاريا، طبيب المعسكر أحالنيإلى طبيب لبناني يدعى” احمد معروف”، زرته في عيادته في حارة حريك، وصف لي بعض الأدوية وأوصاني بالراحة التامة،قررت ان امضي فترة الراحة في احد الفنادق بعيداً عن جــو المعسكرات.
خــلال تلك الفترة كنت أغادر غرفتي و أسير اعـبر الأزقة والشــوارع على غير هـدى ولا أتوقفإلا حـين يوقفـني التعب أو الخطـر. في تلك الفترة أيضاً وجدتني ادخـن واشرب الكحـول وارتـاد الحانات واهذى في منـامي المتقطـع و أصارع تلك الحمـــى الغـريبة التي تنتــابني، و التي لم تفلح أدوية “أحمد معروف” في قتـلهـا.
في إحــدى الليالي كنت امضي سهرتي وحيداًفي نـاد ليلي، كنت اجلس إلى طاولة منزوية يخنقها الظلام، من مكاني كنت أراقب شارداً الضجيج والأجساد والوجوه والابتسامات، لم يكن للحرب وجود هنا، ولم يكن للموت أي ذكرى في رؤوس من يحتفلون هنا، أتذكر ان احدهم قال بصوت عال منش: بيروت كل أيــامهـاأعيـاد.
ارتشفت رشفة من المشروب اللاذع، تعالت أصوات الموسيقى، بيدين مرتعشتين أشعلت سيجارة، وقبل ان انفث دخانها جذبتها يد من بين شفتي، رفعت عينايفشاهدت أمامي جسداًأنثوياً تفوح منه رائحة عطر ربيعي أخاذ، توقعت ان تكون أنثى ضائعة تبحث عن جليس أو بائعة هوى تعرض خدماتها على الساهرين، أشعلتقداحتي ورفعتها لأتبين ملامح صاحبة الجسد، على وقع ضوء اللهب المتراقص شاهدت “مريم” تقف أمامي،لا، لم تكن “مريم”، بل كانت نسخة مطورة من “مريم” ابنة الحرب والمعسكرات، كانت متبرجة وتضع على رأسها شعراًقصيراًمستعاراً وترتدي فستان سهرة احمر يكشف جزءأ كبـــيراً من ظهرها وينحسر حتى منتصف صدرها، لم تقل شيئا، ابتسمت، ثم وضعت السيجـارة بين شفتيها وقالت وهى تجـذب الكرسي لتجلس:
- هل تسمح؟
كنت في غمرة الذهول و كانت يدى ما تزال ترفع القداحة المشتعلة، لمح النادل شعلتها فتقدم نحو مائدتي يحمل في يده دفتراً صغيراً وصحناً عليه كأسين من البلور وزجاجة شمبانيا، أتذكر اني هممت بصرفه، لكن “مريم”سبقتني وطلبت عشـاءً ومشروباً إضافياً، ثم التقطت القداحة من يدي و أشعلت شمعة كبيرة تتوسط المائــدة.
كانت تلك هي المرة الأولىالتيأشاهد فيها “مريم” بهذه الهيئة، لمرات ومرات حدقت فيها ، بدت لي غريبة ولا تمت إلى شخصية “مريم”التي عرفتها بأي صلة، أتذكر أننا أكلنا وشربنا ورقصنا، وتحدثنا في كل شيء، و أتذكر أيضا اني ضحـكت بعمـق، بقــوة، وقــذفتُ من رئتي بأكـوام هـــائلة من السخـــام والرمـــاد والغـبـار.
وقبل ان يدنو الفجر بساعات قليلة غادرنا الملهى، كانت السماء صافية والنجوم تتلألأ بفرح وكان الهواء بارداً ومشبعاً برائحة الصنوبر،سرنا صامتين على الأرصفة الهاجعة، كانت “مريم” تطوح بحقيبة يدها إلى الأمام والخلف على غير معنى، ثم أمسكت ذراعي بيديها واتكأت برأسها على كتفي وهى تسير بكسل مصطنع،وحده صوت كعب حذاءها العاليمن كان يمزق صمت المكان، بعد أن قطعنا بضـع خطـوات سبقتني إلى الأمام بخطوتينثم توقفت والتفتت نحـوي ثم اخفت ذراعيها خلـف ظهرها وظلت تحـدق بي باسمـة قبل ان تقـول بغنـج:
- ليس لدى مكـان لأذهب اليه!
أنهت كلماتها وهى تبتسم ابتسامة فاتنة أضاءت ما تبقى من ظلمة الليل، مددت ذراعي نحوها، فاقتربت منى بخطوات طفولية سريعة وانطوت تحت ذراعي كقطة مدللة، كانت لذيذة، دافئة، تفيض بالعاطفة، شعرت بها تتغلغل بداخلي تجر خلفهاقوساً بهيجاً من عطر ربيعي أخاذ، استحوذ علىجُل تفكيري وحملني إلى مشارف غيبوبة أفيونيه لذيذة، أتذكر لحظتها انى شاهدت كل شيء يبتسم، الجدران، الأرصفة، أعمدة النور، وجه شرطي ليليّ راجل، وجه مومـس بدينة مطلى بالمساحيق، كنتُ في حُلم لذيذ لم أشأ الإفاقة منه، بعد لحظات أشرتُ إلى سيارة تاكسي يتيمة تسير في الشارع الخالي بكسل، توقفت، دلفنا اليهـا، جلست “مريم” إلى جواري ووضعت رأسها على صدري وعلى شفتيها شبح ابتسامة نـاعمة، سـارت بنا السيارة عبر الشـوارع والظــلام والـوحشة وتوقفت أمـــام الفندق الــذى أنــزل فيـه.
فتحتُ عيناي على وقع برد رهيب يعتصرني، وألم شديد يقضم أطرافي، كانت أولى ساعات الشمس قد بدأت بنذر خجولة من الضوء تجاهد بقايا الليل باستماته، بحركة متشنجة طويت اللحاف حول جسدي العاري المرتعد، ثم مددت يدى نحو منضدة مجاورة للسرير والتقطت علبة أسبرين مضغت منها قرصين على عجل واعتدلت جالساً على حافة سريري، حاولت جاهداً كتم آهاتي و إخفاء اصطكاك أسناني، ارتديت بصعوبةبنطالاً وكنزة صوفية وجوارباًكانت مرمية اسفل السرير، وفجأة دارت الجدران في عينيوانقبضتأحشائي، اندفعتُ مسرعا نحو الحمام، و أمام المغسلة أفرغت ما في جوفي، بعد مارثون مؤلم من التشنجات والتقلصات، وبعد ان انتهيت غسلتُ وجهى، ثم وقفت واهناً لاهثاً احدق في وجهي المتموج على صفحة المرآة للحظات ثم غادرت الحمام، كانت “مريم” ما تزال نائمة على جانبها الأيسر، دسست جسدي المرتعد اسفل اللحاف، جمعتُ أطرافه حول وجهي، صارعت ضربات البرد والحمى، وحين بدأ الهدوء يعود إلى نفسي، نقلتُ ناظري نحو “مريم”، كانت أنفاسها الرتيبة والعميقة تشي بأنها تغط في نوم عميق، ظللت احدق فيها على غير انطباع، أتمعن في تقاسيم وجهها، في عينيها المغمضتين وشفتيها المزمومتين اللتان مــا زالتا تحملان بقــــايا ابتسـامة وبقــايا احمــر شفاه قــرمــزي.
حركت”مريم” يدها حركة عفوية ثم انقلبت على ظهرها فانحل لحافها كاشفاً عن جسدها البرونزي العاري، خُيل إلىّ انى احدق في تمثال برونزي لألهه رومانية عتيدة، أخذتمن نساء الأرض أجمل ما فيهن واختصته لنفسها، دفعني هذا الخاطر لأن أمد اصبعي وأمررها على تضاريس وتعرجات جسدها، على اثر ذلك فتحت عينـاهـا ونظــرت نحــوى نظرة عميقة وكســولةثم أغمضت عيناهـا.
عاودتُ التحديق في وجهها، شاهدت ملامحه تتجعد، وشاهدتُ سائلاً اسوداً ثقيلاً يسيل من فمها وانفها و أٌذنيها، ذُعرتُ، هممت بأن أمد يدى نحوها، أو انطق اسمها، وقبل ان تصلكفي إليها فتحت عيناها اللتين طمسهما السـواد، ثم اختلجت ملامحها و كشرت عن أنياب مخيفة، ترجعتُ مذعوراً، ثم أغمضت عينـاي، وحين فتحتهـما وجــدتني متكـوراً اسفل اللحـاف و وجـدت “مريم” نائــمة على سريرهــا.
وفي إحدى ليالي السهاد وبعد ان شعرت بأن حالتيالذهنية تسوء يوما بعد يوم، قررت مغادرة لبنان بعد أن تنقضي أعياد الميلاد أي بعد أقل من شهر. تركتُ الأيام المتبقية تمضي كيفما تشاء، كنت فقط أسير معهـا، أو بالأصـح تركتها تدفعـني وتســـير بي كيفما تشــاء. خلالها خلدتُ لراحة طويلة الأجل في غرفتي ولم اكن أغادرها إلا في حالات نادرة جداً. أتذكــر أن “مريم” زارتني في أمسية سبت ماطرة، كانت ترتدى معطفاً بنياً من الجلد وتحمل بيدها مظلة سوداء صغيرة، حين رأتني على تلك الحالة من الوهن والعـزلة عرضت علىّ بإلحاح العـودة إلى صخب المعسكر، في البداية عارضت، لكنها ألحت ووضعت أمامي عدة مبررات لتلك العـــودة، في نهاية المطاف استسلمتُ لرغبتها ولمبرراتها، وحين تأكدت من انتصارها، ابتسمت ثم جلست على طـرف سريري وأمسكت بكفي بين كفيها ثم قالت وهى تنظر في عيناي مبـاشـرة:
- لا تأكل نفســك، فليس للعرب عـدو أشــد ضراوة عليهم من أنفسهـم.
لا أذكر أي رد لي عليها؛ لكني وبعد سنوات طويلة فكرت في كلماتها تلك، ووجدتها صائبة وتحمل حقيقة يتعـامى عن رؤيتها كثيرون!!
IV
غداة عيد الميلاد، وفي تمام الحادية عشرة صباحاً، كنا في المعسكر و فوجئنا بسيارة “لاند كروزر” زرقاء، تنهب أرض المعسكر بقوة. كانت تقل أفراد حراسة “أبو سطام”، أحد القادة السابقين في “أيلول الأسود”.
أخبرنا مرافقوه بأنه سيزور المعسكر، بمعية فصيل من الجيش الأحمر الياباني، للاطلاع على الجاهزية القتـالية، وعلى مستوى أداء أفراد المعسـكر.
كانت الزيارة استثنائية، وغير متوقعة، في هكذا ظرف؛ إلا أن حالة التأهب القصوى، التي تعيشها معسكرات الثورة الفلسطينية، جعلت الزيارة عادية، وربما أقل من عادية، فقد كان كل شيء في مكانه، وعـلى أحسـن ما يــرام.
اصطف الفدائيون، في صفوف عرضية مرتبة، لاستقبال الضيوف. ترجل “أبو سطام” من سيارة “لاند كروزر” زرقاء قدمت أخيراً. كان رجلاً ضخماً، أسمر البشرة، يرتدي اللباس العسكري، ويلف حول رقبته شــالاً فلسطينياً.
كان “أبو سطام”، كما علمت فيما بعد، قائداً سابقاً في “أيلول الأسود”، هُجر من غزة، مع عائلته، إلى الأردن، عقب كارثة يونيو 1967 بأيام، وهناك انخرط في العمل الفدائي، ثم غادر الأردن بعد أحداث أيلول الأسـود في ال72، واستقر في لبنان.
“أبو سطام” كان مقاتلاً متمرساً، وكان بدوياً شرساً، كما يقول عن نفسه، يعتز ببدويته، أكثر من اعتزازه بأي شيء آخر. شعاره السرمدي الذي لم يتخلَّ عنه والذيحملهمعهمنالأردن(يسقط الملك، يسقط وصفي التل)، مكتوب بحروف حمراء على زجاج سيارته الأمامي، ومنقوش بحروف مذهبة على لوحة خشبية معلقة على جدار مكتبه في بيروت الغربية. لم يفلح مقتل “وصفى التل”، رئيس الحكومة الأردني على يد رجال “أيلول الأسود”، ولا المصالحة بين الملك “حسين” و”ياسر عرفات”، ولا حتى الأيام التي مـرت، في إقنـــاعه بالتخــلي عـن هذا الشعـار.
توقفت سيارات أخرى، تتبع منظمة التحرير الفلسطينية، ترجل منها الفصيل الياباني، وسار الجميع بمعية “أبـو سطـام” يستـعرضــون الفــدائيـين.
وقف أمامي “أبو سطام”، بقامته العاتية، وشعر رأسه الرمادي، وعينيه الذئبيتين. كان يتحدث إلى الرفاق اليابانيين بإنجليزية طليقة. لا أتذكر ماذا قال لهم حتى ضحك الفصيل الياباني برمته؛ لكني أتذكر حين تحجرت الابتسامة حول شفتيه، وحين اتسعت عيناه، وهما تحدقان نحوي بذعر. وأتذكر أيضاً أن يده الضخمـة امتــدت بســرعة نحــو المســدس، الذي يتـدلى مـن جــراب جــلدي أسفــل إبطــه.
لا أدري ما الذي عصف بي في تلك اللحظة. سكنت كل الأصوات. تحجرت ابتسامات الفصيل الياباني، وشحبت وجوههم. أشجار السياج تضاءلت وتقزمت. والسيارات المتوقفة على مقربة منا غدت علب كـبريت ملـونة.
وقبل أن أنبس ببنت شفة، أو أنتبه إلى كيس بلاستيكي أزرق يحلق في سماء المنطقة، انفجر خلفي بركان، قذفني بعنف نحو “أبو سطام”، الذي ما زالت يده تعبر المسافة الخرافية التي تفصلها عن المسدس. تراجع “أبو سطام” إلى الخلف خطوات. وقعتُ على الأرض بعنف. شاهدت أقداماً تتجاوزني، ثم تعالت الصرخات، وتمازجت الأجساد، ثم سمعت ثماني طلقات، سقط بعدها جسد ثقيل على الأرض، على بعد ثلاثة أمتار مني، في خضم الضجيج والغبار. نهضت من عثرتي، واعتدلت واقفاً. عمت الفوضى المكان. أحاط الرفاق ب”أبو سطام”، وبالفصيل الياباني. عبرت الزحام والأجساد الراكضة. استطعت أن أرى “أبو سطام” يسير مستنداً إلى أجساد وسواعد الرفاق، وهو يمسك، بيد تنز الدماء من بين أصابعها، خنجراً مغروسـاً في صـدره العـريض المصـبوغ بالدم.
تخطيت الأجساد. اقتربت من جسد الفتاة العشرينية، التي هاجمت بخنجرها “أبو سطام”. كانت ملقاة على وجهها، فوق سبخة قاتمة من الدم والطين. في اللحظة التي دنوت فيها من جسد الفتاة، غادرت جميع السيارات المعسكر. وفي اللحظة التالية، سمعت خوار الفتاة، وشاهدت أنفاسها تعفر تراب الأرض. جلست جوارها ثم مددت يدي وقلبت وجهها. لا أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك! حين شاهدت وجهها المعجون بالدم والتراب، هوت صاعقة على رأسي، وألقتني في دوامة الخدر و الذهول. كان الجسد المسجى هو جسد “مريم”، والأطراف الملتوية على التراب هي أطراف “مريم”، و الفم المملوء بالدم والتراب هو فم “مريم”، و العينان الجاحظتان اللتان لم تفارقهما نظرة الغضب هما عينا “مريم”… سمعت خوارها مرة أخرى. رفعتُ عينيَّ في الزحــام والفـوضى والوجـوه المكشرة، وأطلقت نداء، عفـوياً، غبياً، أحمقَ:
- ما زالت حية! ما زالت حية!…
على وقع النداء، ركض نحوي ثلاثة من الفدائيين. فرشت كفي نحوهم، وكدت أن أكرر ندائي؛ لكن حركتهم كانت أسرع من كلماتي! اقتربوا ونكسوا فوهات أسلحتهم، وأطلقوا النار، بجنون، بشبق، بكراهية لا حدود لهـا!
تراجعت على مؤخرتي إلى الخلف، عبر الوميض الملتهب أمامي، وضرب الجسد المسجى. تناثرت الدماء والأشلاء والحصوات في الهواء، وعلى جسدي! امتلأ أنفي برائحة الدم والبارود. بدا لي الأمر هرائياً؛ يستحيـل أن يكـون حقيقة، ويستحيـل أن يكون حلـماً! إنه حـدث هـرائي بامتيـاز.
لا أدري كم استمر إطلاق النار! ولم أعد أتذكر عدد الطلقات، ولا أصواتها، فقد فقدت حاسة السمع بعد ثانيتين من بدء إطلاق النار؛ لكني ما زلت أتذكر وميض فوهات الكلاشنكوف، وما زلت أتذكر مظاريف الرصاص الفارغة، وهي تسيل على الأرض بجنون، وما زلت أتذكر الوجوه، التي تفيض كراهية ومقتاً، وهي تعتصـر الزنـاد بغضب جــم!…
و ما زلت أيضا أتذكر أيضاً الجسد المسجى على الأرض باستسلام، بأطراف ملتوية، يستقبل الرصاص، وينتفض، وتتنـاثر أشـلاؤه في الهـواء، كـما لـو كان مخـــدة من الـريش!.
روائي وقاص من اليمن | خاص موقع قلم رصاص