زيد قطريب |
يكادُ العرب ينقرضون مثل الديناصورات، ومازال السياسيون لديهم يبحثون عن مشروع “نهضوي عربي جديد يمكن أن يعبر عن تطلعات الشعوب”!. تلك العبارة المستهلكة طيلة أكثر من قرن، تتردد حتى الساعة بشكل مملّ على ألسنة العروبيين الذين يُفترض أن يكون العربُ بالنسبة إليهم شعبٌ واحد وليسوا مجموعة شعوب كما يكتبون في مقالاتهم أو يتحدثون في حواراتهم. كذلك الأمر عندما يتكلم أولئك “المفكرون” عن القومية ويخلطون بينها وبين الدين، أو عندما يسمون الأعراق بالقوميات مع أن علم الاجتماع الحديث والقديم يفرق تماماً بين هذه المصطلحات من الناحية العلمية حيث القومية هي شعور المجتمع بانتمائه إلى بيئة معينة وهوية معينة واستعداده للدفاع عنها، بينما الإثنيات هي الأعراق التي يمكن أن يتكون منها أي شعب واحد في العالم، فليس هناك من شعب يتحدّر من عرق واحد، ومن المعروف أن آخر من نادى بهذا النقاء العرقي هو أودولف هتلر الذي خسر الحرب العالمية الثانية وانتهت من وقتها نظرية صفاء العرق الآري دون أن تندحر من أذهان الألمان أو من فئة منهم سمّت نفسها بالنازية الجديدة!.
طيلة عهد طويل من العمل تحت سقف الجامعة العربية التي أسستها بريطانيا ودعم وجودها الاستعمار من أجل أن تحافظ على عوامل التجزئة، لم يشعر أولئك المفكرون بضرورة الانقضاض على ذلك الميثاق الذي يشرذم ما نسميهم عرباً والذي يؤجج التفرقة ويدعم مشاريع معينة من الوحدة الطوباوية التي لا تصنع اتحاداً حقيقياً على الارض بل يقتصر شغلها على الشعارات والاحتفاء عبر شاشات التلفزة!.
مازال “العرب” غير قادرين على شرح الهوية العربية، فهم لا يكتفون بمزجها مع الدين بل يعتبرون العروبة عرقاً وسلالة يجمعها الدم وهذا أسوأ نظرية في علم الاجتماع الذي باد منذ زمن طويل لكنه لم ينتف من عقول العروبيين الذين مازالوا يبحثون حتى الساعة عن مشروع ثقافي وحداثوي يجمع العرب جميعاً تحت يافطته!. ترى ما مصير الأكراد إذا كانت العروبة عبارة عن عرق أو سلالة؟. وما هو مصير الأرمن والشركس وكل ما يسمون خطأ بالأقليات؟. أليس من المفترض أن يتم تعديل مفاهيم العروبة في أيديولوجيات الأحزاب العقائدية من أجل مواكبة العصر والفصل بين مفهوم القومية والدين، بين الانتماء للارض والانتساب للدين؟.
تنتعش اليوم سجالات فكرية كانت مؤجلة حتى زمن بعيد، لكن مشروع الحداثة الذي تمكن من إضافة شيء مختلف إلى المشهد ظل يغرد خارج سرب العروبة التقليدية المبنية على الدبكة والغناء وكل الانفعالات الأخرى. ما سماه العرب بالمشرق العربي هو بالأساس الأمة السورية التي كان لها دور بارز في العالم العربي زمناً طويلاً ليس في زمن الدولة الأموية والعباسية وحسب، بل قبل ذلك بكثير عندما جاء الملك نبوخذ نصر من شمال شرق العراق كي يحرر فلسطين من اليهود وأيضاً عندما قام سرجون بتوحيد سوريا الطبيعية كلها في دولة واحدة قوية، ولاحقاً يمكن أن تكون عبارة معاوية الشهيرة عن جزيرة قبرص عندما سُئل إذا كان سيضمها إلى دولته القوية دليلاً على ما نتحدث عنه، قال معاوية: “كيف لا أضمّ قبرص وأنا أسمع صياح الديكة فيها كل صباح”!. ماهو واضح هنا أن العروبيين لم يتمكنوا من النظر بشكل علمي إلى حقائق الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع لذلك ضيّعوا البوصلة بين العوامل التي تُنشىء الأمم وتلك التي تنتج عن نشوئها!.
المشكلة أن العروبيين غير قادرين على إجراء مكاشفات فكرية عميقة وجريئة تجاه التجربة الفكرية في أحزابهم المعروفة، بل إن تلك الأيديولوجيا قد ورطت منذ فجر ما سُمي بعصر النهضة، جميعَ القصائد والخطب والروايات بالمراهنة على عقيدة عروبية محطمة لا تنتمي إلى معطيات العلم في شيء ليكتشف أولئك المفكرون أنفسهم أو من هم في حكمهم اليوم أن العرب بحاجة إلى مشروع ثقافي واضح وجديد يمكن أن يحمل تطلعات الشعوب فعلاً، كأن أولئك المفكرين يحاولون تحويل الشعوب إلى حقول تجارب تستمر حتى مئة عام أخرى من الارتجال وتأجيل الحداثة بسبب التخبيص الفكري المدعوم بشتى أساليب القوة والفرض!.
المصيبة كانت دائماً في تطويع الشعر الذي يقال إنه “ديوان العرب” لصالح النص السياسي الأيديولوجي العروبي من أجل نشر الحماسة ورفع وتيرة التطبيل للمقولات غير العلمية، الأمر الذي أضرّ كثيراً بهوية هذا الشعر وجعله يمدح الواقع بما ليس فيه، وتلك كانت أكبر عملية تواطؤ قامت بسلخ جلد هذا الشعر وسلبه هويته في أقل توصيف ثقافي يمكن أن يقال!.
فتح النوافذ والشبابيك لا بديل عنه في هذه المرحلة، إنها المكاشفات المؤلمة التي لابد أن تحدث رغم الأوجاع التي ستتركها على الأجساد المريضة التي تنتظر علاجات شافية للأفكار حتى لو كان عن النسف شرط أن يكون هذا النسف علمياً علمانياً غير مهادن ولا يخضع لأية اعتبارات!. قديما قال “العرب” إن “الرائي لا يكذِبُ أهله” ولا أحد يدري لماذا أصبح الراؤون كأنهم عميانَ قلوبٍ في هذا الزمن، أو إنهم يظهرون بلا أهلٍ.. مقطوعين من شجرة!.
شاعر وناقد سوري | خاص موقع قلم رصاص