سرت في الحارة القديمة الضيقة، كان الوقت يميل للغروب الذي بدأ يأتي مبكراً مع بداية أيلول، حاولت إيجاد حل وسطي لرغبتي في نسخ انطباعات بصرية في ذاكرتي لما حولي، وخوفي من أن أتعثر كالعادة بشيء ما وأقع، فأنا خبيرة في السقوط ومن ثم النهوض، ولم أعد أبالي بنظرات الناس إليّ وأنا مستلقية على وجهي أو جالسة على الطريق، لم أعد أبالي إن كانوا سيضحكون أو يبدون أسفهم لحالي، فأنا معتادة على الوقوع الذي قد يحدث في أية لحظة متوقعة أو غير متوقعة.
نظرت حولي، ثم فوقي، ثم انتقلت بنظري إلى حجارة الطريق السوداء النافرة من مضجعها، أصابع قدميّ تتباعد مع كل دعسة على الأرض وتعود لتنضمّ إلى بعضها ما أن أرفع قدمي، فكرت:
– المناكير الزهري بيلبق لأظافري أكتر من البرتقالي.
يتنقّل المارة بين الرصيف والشارع الضيق، يفسحون المجال للسيارات للعبور، وما أن يصعدوا إلى الرصيف حتى يعيق سيرهم الباعة الخارجون من دكاكينهم الجالسون على الرصيف في فترة “التقنين” المسائية، فيعودون للتقافز بين الرصيف والشارع مرة أخرى.
لم أصعد الرصيف المزدحم، نظرت إلى الأعلى فشاهدت سرباً من الحمام يطير في فسحة سماوية داكنة تميل إلى الأحمر المغبرّ محصورة في إطار بنائين. امرأة تجلس على الشرفة مستندة بكوعها على درابزين الحديد القديم المجدول. أسطح القرميد تظهر بالكاد.
دخلت شارعاً فرعياً في الجهة اليسرى، وجدت باب المطرانية مفتوحاً فدخلت.
لم أتوقع أن تكون الكنيسة مفتوحة خارج أوقات القداس، لأن طبيب الأسنان أكد لي أن الكنائس باتت تغلق أبوابها في وجه الزوار خشية أعمال إرهابية.
تسللت عبر الباب الموارب قليلاً، كنتُ وحدي داخل هذا الفضاء المعتم. سرت في الممر المستقيم المحاط بالمقاعد من الجانبين. جلست على أحد المقاعد الأمامية أنظر إلى الصليب الخشبي الكبير في العمق. عند العمود الأيمن تمثال لمريم، وعند الأيسر تمثال ابنها وبعض الشموع.
تتدلى من قناطر السقف ثلاث ثريات كريستالية كبيرة معلقة بجنازير، لم أشاهد وجه ملائكة الله تطل علي من أعلى، فقط طلاءً مقشوراً بدا لي سماوي اللون في العتمة. التفتت، كان هناك طابق علوي له نفس الدرابزين الحديدي المجدول الذي رأيت المرأة تسند كوعها إليه على شرفتها القديمة.
صوت آذان المغرب يصدح عالياً داخل جدران الكنيسة الصامتة، تتكئ الجدران على بعضها، وهذا ما يجب أن يكون.
نهضت إلى حيث مريم أولاً، فهي المرأة والأم والحياة والكون.
وقفت عند قدميها الحافيتين، أصابع قدميها مصنوعة بدقّة على خلاف أصابعي، رفعت رأسي كي أرى وجهها جيداً، لم تَنْظُر في عينيّ. وجهها عذب لكن نظرتها غائمة، يداها مشرّعتا الراحتين إلى أعلى، أحسستها تدعوني كي أصعد إليها.
– ما صار الوقت لاطلع لعندك.. لسا بكير..
طلبت منها أن تسامحنا جميعاً على ما نفعل، أن توقف الدم، أن تجبرنا كأم قاسية على نكون أكثر تسامحاً ومحبة، أن نقبل بالآخر الذي يملك نفس اليدين والقدمين، فماً وعينين، دماً يتخثر بنفس الطريقة حين يسيل من جرح مفتوح، وتتقاطر عليه أسراب الذباب التي لا تملك ديناً حين يُشكّل بركاً لزجة على أسفلت الطريق أو التراب.
انحدرت على خدي دمعة دون إذن، أفسدت الكحل في عيني، مسحتها لكنها ظلت مصرة أن تنحدر من العين ذاتها.
انتقلت إليه، (ابن الرب) كما ينادي عليه البعض بينما لا يعترف (الآخر) بأبوته له.
“إنهم لا يدرون ماذا يفعلون”.. ألم تقلها أنت يوماً ما؟ أيعقل أنهم لم يدروا حتى الآن ما يفعلون؟ ألم يحن الأوان بعد ليمتلكوا المعرفة بأفعالهم وليتحملوا مسؤوليتها؟
هزيل أنت خارج سطوة أمك، أخبر أباك أن يديه ملوثتان بدم من صنع.
لم أوحى إلينا أن نرفض الآخر؟ لم فرّقنا؟ لم جعلنا نتكتل على بعضنا كخراف محصورة على حائط المسلخ؟
ليغشهم بغلالة نور من عنده.. ليتوقفوا.. يسامحوا، يحبّوا، ويغفروا.. أو ليأتهم بطوفان من عنده… ولا يرسل إليهم سفينة نوح أو حمامة تلتمس اليابسة.
أشعلت شمعة لمجموعة قديسين عند الجدار الأيمن، وخرجت.
وكان العتم، وروح الرب تطوف فوق وجه دمشق.
أخرجت (قدّاحة البيل) من محفظتي وسرت متعثّرة في حارات دمشق الضيقة.
3 أيلول 2013
موقع قلم رصاص الثقافي