الرئيسية » مبراة » «تحاميل الحرّية»!

«تحاميل الحرّية»!

لم يعد مُستغرباً في ظل الحروب الطاحنة سماع مثقفٍ عربي مخضرم أو متثاقف حديث العهد يشيد بالقتل وأدواته بشكل مباشر أو مبطن، ويبرر الذبح المتفشي والتدمير الممنهج بوصفهما حالة فوضى يجب أن تمر بها أي بلاد تحلم بالخلاص والحرية قبل أن تستقر وتصبح حُرّة كما أرادوا لها أن تكون، أما هو حضرة المثقف المخضرم فما عليه سوى الجلوس والانتظار والارتزاق من فيض الدماء التي تُراق والأرواح التي تُزهق كي يرجع لاحقاً ويفتتح مشروعاته الحداثوية التي وعد بها، ويعمل على بناء دولة مدنية ديمقراطية دستورها الإنسان أولاً، ويسمح بترخيص المنتديات الثقافية والجمعيات الأهلية ويدعم كل الأنشطة الثقافية التي (تحرم قتل النفس إلا بالحق)!، ويُعلي كلمة الثقافة لتكون فوق كل كلمة ويحول السجون إلى مسارح، والمعتقلات الجوفية إلى متاحف وغرف التحقيق إلى غاليريهات تُعرض فيها اللوحات التي توثق حقبة الاستبداد ومراحل تطور الفن التشكيلي.

أما من ماتوا في زمن الفوضى فقد كان هذا قدرهم، ولم يكن لهم نصيب الاستمتاع بمآثر المثقفين المخضرمين والمُحدثين، ومن حسن حظهم أنهم ماتوا في زمن الفوضى ولم ينتظروا مثلنا شاشات السينما ثلاثية الأبعاد، والقمر الصناعي الخاص الذي لطالما وعودنا به لكنهم يقولون اليوم: إنه كبير جداً ويخشون إذا أطلقوه أن يوسع ثقب الأوزون ويودي بنا جميعاً..

أما الصحافة التي أصبحت حُرّة قد تكون أعز ما فات الذين قُتلوا، ليتهم يعلمون أنها بلغت من الحرية درجة السماح بنقل عملية استئصال البواسير من مؤخرة سيادته، حتى أنهم أتاحوا لبعض الصحفيين التقاط صور السيلفي مع الباسور المستأصل ومؤخرة حضرته.

أما في وزارة الثقافة فقد ألغيت جميع القيود المفروضة على طباعة المخطوطات الأدبية وسُمح بطباعة كل مخطوط ينتقد الأداء الحكومي وسلطة الأحزاب السياسية ورجال الدين والعشائر، وبدأت وزارة الصحة إنتاج «تحاميل الحرية» التي من شأنها رفع مناعة المواطن ضد الاستبداد وجعله أكثر اعتزازاً بإنسانيته، وتُوزع هذه التحاميل مجاناً في كافة المؤسسات الحكومية الديمقراطية، حفاظاً على كرامة المواطن.

تستحق كل تلك الأحلام أن يصفق المثقفون للدم، بل أن يشربوه ويتلوثوا به!؟، لكن مقاربة بسيطة لكل ما جرى ويجري خلال السنوات الست الماضية سنجد أن من غمس قلمه بدماء الأبرياء لا يمكن أن يكون سوى قاتل برتبة مثقف، ولن يكون قادراً على بناء دولة لا مدنية ولا غيرها، وكل ما في الأمر أنه يسترزق من دماء من يذبحون يومياً ويروج عبر بعض المنابر لمصطلحات فلهوية يُصفق لها بعض السُذج ممن ما زالوا يؤمنون بثقافة تأليه الأفراد وسياسة القطيع.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …