أنس فرج |
وقلتها كأني أرصف خمس وعشرين حبة لؤلؤ بنسق اسمه الرحيل، وما بقي في نهايته رقم أعتد به. فأنا صاحب ربع قرن شهد العبور الثالث للبشرية لثلاثة أصفار جدد. حين لفظت حروف النطق الأولى لم أكن أدري أن السلام يحتاج اجتماعاً دولياً لترسم له قواعد، وأن ربع قرن سيمر ولن يتحقق من ذاك السلام شيء، بل سأشهد مطلع أيامي الأولى حرباً عربية-عربية وعدواناً وتحريراً وحصاراً وحرباً وألف ويلة وويلة.
وأني في مسيرة عبوري لعقدي الأول سترتسم قواعد عالم جديد اسمه الانترنت، وستكبر مساحته تدريجياً ليبلع العالم الأصلي ويرمي مشاعرنا في سلة المحذوفات وينهي علاقاتنا بزر الحجب الافتراضي بعدما غدت حيواتنا جدراناً توهمنا بالحرية وتحجز عنا رؤية ما خلف الجدار. وإذ بأيامي تسير يا أمي متتابعة مثقلة في إيجاد رحاب حلم ظل يكبر فرحت ألتقط من المدن رحيقها دون الشبع، ولم أكن أدري أن ذاكرة الرحيق ستؤلمني أكثر من رائحة البارود.
فالعقد الثاني يا أمي لم يأتِ وحيداً بل جلب ياسميناً أخضر أنبت في كل مكان قادماً كسفن الفينيقيين إلى الشرق، ولكن التربة كانت فاسدة كما الهواء والماء فأشعل الياسمين الحرائق وصارت حدودنا عوسج من نار، وبيوتنا سجون للفكر وجدراننا مثقبة برصاص الجار القريب. لقد أُنهكنا وسار الزمن مثقلاً حتى العجز يسحبنا خلفه ويمتطي أملنا في إيجاد الخلاص، وتشردنا شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً وعدنا إلى زمن الخيم في الصحاري. بل رمينا أنفسنا في البحر علّ الموج يقذفنا بعيداً عن الذاكرة.
واستمرت الحكاية تطوي صفحات بللها الدمع الأحمر حتى خرشت كجراح عميقة ما إن يمسها مبضع حتى تفزع. وأي فزع ذاك ووجعنا يتيم يا أمي يسمونه في سجلات الساسة “دعم إنساني” وفي أدمغة القواد ضحايا. فإذا سألتني ضحايا من؟! سيفاجئك حد الصدمة أن هنالك ٢٢ مليون ضحية هم ذاتهم ٢٢ مليون متهمين بأنهم من صنعوا الضحية. فهل الضحية أرض من تراب فاسد وياسمين مصفر؟! أم كلمة نطقناها منذ الأزل واستنتجنا اليوم أننا لانعرف عنها سوى الواو والطاء والنون؟! أم نحن في كل واحد منا يتصارع ضحية وجلاد معاً؟!.فتارة يغلب الظلم وتارة ينتصر الحق فيما يظل النصر بعين الأول ظلم بعين الآخر. وهكذا حتى صرنا متتالية مليونيه من شهيد، ومليونيه من مفقود، ومليونيه من مصاب، ومليونيه من لاجئ بحر وثلاثة أضعافها من لاجئ بر وضعف آخر من هارب ضمن حدود إطار الموت. وإذ بنا نكتشف بعد ربع قرن أننا دمى لا تتصارع إلا فيما بينها، محشوة برعب مفاده: “هناك من يهدد وجودك فاحذر”. نتحرك بخيوط رفيعة لا نشعر بها، نقف على مسرح عالمي والجميع مدعو للفرجة المجانية، يسقط الدموع مرة ويضحك عشرات المرات، ولا يعر اهتماماً طالما أنه ليس سوى متفرج. لكن ما إن اشتعل المسرح وغدت ألسنة اللهب تتطاير عشوائيا وتلذع أطراف فساتين بعض السيدات وقبعات بعض الرجال حتى عمت المسرح الفوضى وكثر الصراخ منادياً بإيقاف العرض وإحلال النهاية أياً كان مصير الشخوص. اليوم وعند تمام ربع قرن يا أمي لا أجد دمعاً لأمحي جرح قريب لي، ولا بسمة لأضحك في وجه طفل لا يعرف ماذا ينتظره في الغد. لا أجد سوى ملامح مطموسة وأصابع تتحرك في اليوم مئة مرة لترمم حائط فلان بلبنة وترشق حائط آخر بحجر.
تراها حيطان السجن قد ارتسمت ونحن داخله دون ان ندري وسنمضي ربع قرن آخر أو ربما أكثر في البحث عن المفتاح؟!
أقول هذا واستسمح نفسي بأني لم أعش دور الضحية بطلاً ولا الجلاد بطلاً وما زلت لليوم ألعب دور كومبارس في جوقة منشدي الأمل.
الوطن / ذكرى ربع قرن على الميلاد
صحفي سوري| خاص موقع قلم رصاص