الرئيسية » رصاص خشن » في المنفى .. ليس للسوري ما يرثيه

في المنفى .. ليس للسوري ما يرثيه

أحمد كرحوت |

حين تعيش في بلد مصاب بمرض الحرب يلزمك الكثير من اليقظة والانتباه المستمر حتى لا تصاب بجرثومة التعصب الديني والسياسي، كل شيء حولك يدعوك للتطرف وكل جانب من المتقاتلين والمطبلين والمزمرين يعرض عليك صوراً وأفلاماً وقصصاً ليثبت لك أنه الجلاد والضحية في آن معاَ!

في حين يظهر الطرف الآخر على أنه الوحش المجرم، بالإضافة إلى كل أجهزة الإعلام التي تمارس الدعاية لأحد الأطراف تحت ستار كلمة “الأخبار” فتستقطب العقول الواهنة كل على حافة من الهاوية وتبقى الساحة فارغة أمامهم لحملة السلاح، فيكون كل من حولك من الأصدقاء والعائلة يريدونك أن تشاركهم حقدهم على الطرف الآخر..

لكي لا تقع في هذا الجنون الجماعي أنت بحاجة إلى الكثير من العزلة الجسدية والفكرية وأن لا تنسَ أبداً أن المأساة سببها الأساسي الغباء الذي يتلخص في مفهوم: إنسان يقتل إنسان فقط لأنه لا يشاركه نفس الأفكار!! تفكر عندها في الهرب من كل ما هو حولك وفجأة تجد نفسك بلا أرض تسدل عليها جسدك الذي وهنته الأيام والمشي الطويل في غابات أوروبا وتغرق في منفىً آخر غير الذي ولدت فيه.

لم يبق للسوري في المنفى ما يبرر وجوده، السوري الذي أوجد السياسة فقتله السياسيون، وأوجد السفن فغرق في بحر من الدم، ولم يجد ما يخلصه من سلطة الحدود المغلقة والأسلاك الشائكة، الذي خلق الحضارة الأولى وهرب منها بحثاً عن لغات جديدة. السوري الذي احتفظ بالسيف الأموي حتى غرزه القوادون في ظهره وأغرقوه في حقل من النفط. السوري الذي اعتاد الإحتفاظ بكل ما هو فارغ من علب بلاستيكية وفراش قديم يعود لجده. السوري الذي نام حالماً بصرخته دون أن يردد الصدى صوته فيخاف، ذاك الكائن الذي يفهمه الجميع ولا يفهم نفسه، فيخبئ صحن سجائره الممتلئ وعلّاقات الثياب المتسخة وفناجين الشاي المختمر وعلب الكبريت الفارغة خوفاً من عتبات الأيام العالية وينسي أن يحتفظ بالسلالم الخشبية حين استبدلها بالإسمنت الذي تحول إلى متاريس يلقي خلفها ظله ويمشي تحت الركام. السوري الذي يحتفظ بالكتب المتهرئة بلا مكتبات ويكتب في صفحاته الفارغة قصص حبه الأول.

السوري الذي يركب دراجة هوائية فيجعلها سبيلاً ليوقظ النيام في الأزقة الضيقة صارخا بأعلى صوته “أوعى أوعي” فيبتعد المتجولون دون وعي حقيقي لعمق ندائه!!

لم يبق للسوري أكثر من اللغة التي أوجدها قبل اكتشاف القارات وقبل الجمهورية، قبل البرلمانات وصناديق الاقتراع البائسة، قبل الموت بقليل، وقبل الخلق بقليل. 

يقول السوري للسوري: لا خبز لدي أو أمل، لا أرض لي، وحده البحر كفيلٌ بتعليبي وتقديمي في علب حديدية للشعوب الجديدة وجبات ناقصة الدم كاملة الدسم تُباع في الصيدليات المناوبة ومحلات الكونسروة.

كان يعلم السوري أنه سيحتاج جوازاً ليعبر من زقاق لآخر، فاحتفظ بفواتير الماء والكهرباء والأوكسجين ومشتقات البترول وخيوط العناكب والإبر والخيطان الملونة وأحواض الزرع والقش وحبوب السيتامول والبروفين وعلب اللاصقات الطبية.

كان يعلم السوري أن بيته سيهدم، فألبس الكنبات شراشف بيضاء كي لا تتسخ إذا ما احترقت وعلق عباءات سوداء على شماعات المنزل ليتأكد أن شيئاً ما سيقيم عليه الحداد تحت الركام وفوق القوارب المليئة بالهواء الأصفر والطاعون..

كان يعلم السوري أنه سيخسر قبل النهاية حين قلصوا له عدد ساعات النهار في الشتاء وعدد صالات السينما وحولوها لمراكز عسكرية تبيع العرق والأزرار والأحذية الجلدية وحقائب السفر!

كان يعلم انه سيخسر حين أغلقوا المسارح وافتتحوا مراكز تدريب الصاعقة للرضع وحذفوا الشامات من وجوههم.

لم يبق للسوري ما يرثيه سوى الخيطان الصوفية التي لم تحِكها النساء وأحرقتها قذائف الهاون والسيارات المفخخة والصحف الفاسدة.

كل ما تمناه السوري في الأمس أن تقع بين يديه جريدة لا تبتدئ بارتفاع سعر الدولار مقابل روحه الرخيصة، كل ما تمناه صحيفة نظيفة يحفظها في علب الحلاوة  الفارغة أو تحت فراش جده، أن يلبسها فوق جلده المتشقق من آثار النزوح، لم يبق للسوري في المنفى ما يبرر وجوده سوى يوم واحد يسميه الجميع كذبة نيسان ويسميه السوري عيد البداية.

كاتب وشاعر سوري | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …