فؤاد ديب |
في آخر مشهد من مشاهد حلم يراودني كل مدة: “الأطفال الذين رأيتهم آخر مرة يسبحون في مياه النافورة تلك، ما زالوا كما هم لم بكبروا، ولم تؤثر بعمرهم سنوات الحرب الملعونة، أكاد أذكر تفاصيل أقفاصهم الصدرية وشعرهم المليء بأعشاب النافورة الخضراء وملابسهم الداخلية وحتى الذين لا يرتدون ملابس داخلية كلهم يتصايحون ويلعبون ويقفزون داخل الماء فيتطاير ماء النافورة رذاذاً أخضر يطال شاباً يجلس في سرفيس يرموك كراجات جانب الشباك، يعلق: شو هالشعب خيا تاركين ولادهم فلتانين بنص البطيخة نزلني على اليمين معلم”.
آخر ما يمكن أن تتذكره مخيلتك قبل أن يصاب المخيم بالجذام، وتصيبه عدوى الحرب الملعونة، يركض الشاب قاطعاً الشارع ويدلف إلى داخل مركز حلوة زيدان في أول شارع اليرموك كي يتدرب على عرض قادم عن (التمسك بالوطن) و أن المخيم ليس إلا عنواناً مؤقتاً للفلسطيني أينما حل ومهما قست عليه الظروف وضاقت به الأرض… هو المخيم محتفياً ومخلداً عودته إلى فلسطين منتقداً عادات سيئة بعرض مسرحي آخر لشاب موهوب أسما عرضه (السوكة) هذه الأدران التي تراكمت عبر سنوات اللجوء لكنه لم يفقد ألقه الثقافي على الرغم من أسواقه التجارية وتداخاله مع الأحياء المجاورة له.
على اليمين لوسمحت، بكل أدب وأحترام وهدوء يغلق باب السرفيس ويدلف الى مركز شبابي كي يشارك بأمسية شعرية عن الحب والموت والحرب عن كل شيء، لكن هذا الهدوء سرعان ما ينتهي عندما يصعد المنبر شاعر شاب بشعره الأجعد وثيابه الميتافيزيقية، يتهكم أحد الحضور، يقول لجاره الجالس بجانبه والذي لا يعرفه: “ما رأيك أن نذهب الى المكتبة الفلسطينية قريبة بعد ثلاثة شوارع هناك إحتفاليه بإصدار كتاب عن إحدى القرى في شمال فلسطين، صادر عن دار الشحرة، فيوافق، ينهضان وتنشأ بينهما مودة سريعة يشتريان الكتاب ويكملان سيرهما الى المركز الثقافي العربي في نهاية شارع فلسطين كي يحضران حفل توزيع جوائز مهرجان ربيع
الأدب للموهوبين والموهوبات من الشباب، ويستمعان إلى رأي اللجنة التي قامت بتقييم هذه المشاركات.
بعد ذلك سيلقيان التحية على صديق مشترك بينهما يعمل في (مجلة الهدف) ويشاركا في اللقاء الشهري لمجلة المخيم، هذا الصدبق الذي عرفا أنهما يشتركان بصداقته وهما يتجاذبان أطراف الحديث بينما هما يمشيان ويتناقشان بما سمعاه : “كأنه بالفيسبوك عنا أصدقاء مشتركين؟”
إذاً دعنا نذهب إليه كي نرافقه سوية إلى الخيمة في (الحجر الأسود).. أستاذ أستاذ آخر موقف إنه دوار البطيخة أكياس الرمل والدشم واللباس العسكري وأصوات الرصاص والقذائف.
“أستاذ الله يخليك بسرعة” يجذبني شاب يرتدي لباساً عسكرياً ويدفع بي خلف كتلة اسمنتية اجلس ..اجلس.. هل تذكرني..؟
ها نعم نعم أذكرك جيداً كنت تسبح في مياه النافورة أليس كذلك..؟
عليه العوض ومنه العوض، أستاذ أنا الشاب الذي حاز المركز الأول بمسابقة الشعر في مسابقة ربيع الأدب…!
وبينما أحاول تذكره تدوي طلقة قناص فتجحظ عيناه ويهوي الشاعر الشاب على صدري أسحب ما تبقى من جسده كي أخفيه تماماً خلف الكتلة الإسمنية كي لا يصاب بطلقة أخرى لكن عينيه تغمضان وإبتسامة في زاوية فمه. ويهمس: المخيم.. فلسطين… أحاول أن أتذكره لكنه ينهض ويخلع ثيابه ويقفز مع الأطفال الذين يسبحون في مياه النافورة وبينهم حسان وزياد وخالد وأنس وأحمد وطلال ووليد وسمير وجابر وفؤاد وكمال وبشار وسوزان ورئيفة
وبشرى وماهر وبسام ومعاذ وقحطان ورائدة، وليندا ترسم لوحة لدوار لبطيخة آخر ما يمكن أن يصله اليوم خط يرموك كراحات..
هذا هو المخيم ما زال يانعاً في الذاكرة لم تهدمه الحرب وبقي واسعاً فاتحاً ذراعيه مشهراً قلبه امام الجميع كي يدخلوه بسلام آمنين، مرحّباً بهم في كل زقاق وعند كل زاوية متخيلاً المخيم وكأن كاميرا فجر يعقوب تصور المراكز الثقافية والمنتديات كي تبقى في ذاكرتنا ابتداءً من مركز الشهيدة حلوة زيدان إنتهاء بالمركز الثقافي العربي وما بينهما مثل منتدى غسان كنفاني الثقافي، المنتدى الثقافي الديمقراطي ، المكتبة الثقافية الوطنية ، مكتبة عز الدين القسام، نادي فتيات فلسطين، مركز جفرا، دار الشجرة، دار الكرمل ، دار الطارق، دار واجب، دار القدس للعلوم، مجلة الهدف، مجلة الحرية، مجلة إلى الأمام، مجلة فلسطين المسلمة، مجلة فارس.. وقبل أن يحدث ما حدث في المخيم بدأت مجلات اخرى بالصدور مثل: مجلة المخيم والكثير من المجلات…وكان هناك بيت الشعر ومركز الشهيد ماجد أبو شرار ومركز إبداع والمركز الفلسطيني للثقافة والفنون وكان هناك الكثير من الملتقيات في المنازل مستذكرين الرعيل الأول: صالح هواري داود يعقوب يوسف اليوسف ومحمود موعد وبعد ذلك أحمد برقاوي ومحمود السرساوي وماجد ابو ماضي وحكم وغيرهم الكثيرين الكثيرين .
كان مخيم اليرموك من أكثر بقع العالم كثافة سكانيه وكذلك كان مزدحماً بالمراكز الثقافية، ببساطة هو المخيم بكل ما تعنيه فلسطين من معنى..!
شاعر فلسطيني سوري/ ألمانيا | خاص موقع قلم رصاص