ياسر اسكيف |
ما من قراءة بريئة، أو محايدة. وتلك القراءة التي تحدث كبحث عن المعرفة لم تعد تتجاوز التعاطي مع المناهج الدراسية. والهدف هنا، كما يعرف الجميع، ليس المعرفة بحد ذاتها بل كونها أداة لاجتياز اختبار مفروض. وفي حال حصولها تكون نتيجة سببيّة أكثر منها غاية.
والقراءة، بالكيفية التي استقرّت عليها نوعيتها وأشكالها، باتت أقرب إلى الخيار الأيديولوجي منها إلى الإغواء المعرفي، والفضول الاستكشافي، وبات سؤال من نوع لماذا يُفكّر الآخرون بطريقة تختلف عن طريقتي؟ شبه غائب في دوافع القراءة، وطغى عليه سؤال آخر يقاربه في الصياغة والشكل، ويناقضه في المحتوى والجوهر. لماذا لا يفكر الآخرون بطريقتي؟ وكأنما التفكير بغير طريقة(ي) هو نفي وإلغاء وإقصاء ل(ي).
فيما ينطوي السؤال الأول على حسّ الاستكشاف والتقصي والبحث الذي يجعل من الهمّ المعرفي عصبه الرئيس.كما أنه يعكس النيّة في التصويب الذاتي، إن كان من طريقة أخرى صائبة في التفكير. والسؤالان بهذا المعنى ينطويان على نزوع إلى التصويب، أحدهما وحيد الاتجاه، والآخر ثنائيّه. إذ يسبغ السؤال الثاني على طارحهِ ميزة امتلاك الصواب، ويمنحه في الوقت ذاته الحق في تصويب ما يراه خطأ الآخر. وهذا ما يشير إلى نوع من الهداية الجهادية التي تتعدى في العمق مسألة المعرفة إلى مسألة الوجود.
وكما تظهر صياغة هذا السؤال فإنه سؤال المُنجز المُنتهي الذي يستند إلى المُقدّس النصي، أو المُطلق المعرفي. فيما يبدو السؤال بصيغته الأولى مسكوناً بهمّ البحث والتقصي عن الأسباب، كما بهاجس المعرفة والاستكشاف، ويقارب إلى حد بعيد مبدأ الشك بانطلاقهِ من موثوقيّة غير مصونة، وقابلة في أي وقت لإعادة النظر في ثوابتها ومسلّماتها. وبالتالي فالقراءة، التي يحفّز عليها السؤال بصيغته الأولى، تخلو من أيّة إعادة للإنتاج، حتى ولو على مستوى التدوير. وإن كان من إعادة إنتاج تُحسب لفعل القراءة هنا فهي إعادة إنتاج وتدوير الأسس والمسلمات التي تقوم عليها ثقافة الاتّباع والنقل والوصاية.
هذه الثقافة التي تخلو في كل جوانبها وفروعها وانشغالاتها من أي موقف نقدي، وإن كان من موقف فهو النفي على قاعدة التضاد.
صياغتان متقاربتان ومتباعدتان في الوقت عينه، إحداهما تحيل الفضول إلى فعل تأكيد على ثبات الحال، ومراجعة أمينة لنقاء رفوف الأرشيف الذاتي. إنه بطريقة ما استخدام أمني للفضول بجعله بوّاباً صارماً، أو مُبيداً لا يتساهل أبداً مع الأعشاب “الضارة”، وربّما كلب حراسة لا يكفّ عن الدوران حول السياج ومطاردة كل غريب، أو سجّاناً لا يعرف الرحمة. وهي صياغة تقدّم القراءة على أنها مُجرّد انشغال بالإثباتات التي تزيد من عزلة الانسان وتقييده، كما تكشف عن واحد من وجوهها الذي يتمثّل برهاب المعرفة. والأمر هنا يشبه إلى حد بعيد غض الطرف عن مشهد يظنّ الرائي بأنه حرام عليه. وهو بطريقة ما يمثل رعباً من انكشاف الذات في مرآة العري التي تجسدها كل معرفة. وهذا يقود إلى الحديث عن نوع من درء المسؤولية التي تستجرّها المعرفة. فالمعرفة مسؤولية بالدرجة الأولى. مسؤولية تستدعي الصراع الدائم بين معرفة متأكدة من صوابها، وأخرى تهدّد هذا الصواب.
غير أنه، في الفهم الذي تقدّمه هذه الصياغة، يغدو فعل القراءة أشبه ما يكون بمعركة دفاعية دائمة لا يكفُّ فيها هذا القارئ عن حفر الخنادق وإقامة المتاريس، بحيث تبدو القراءة بالنسبة إليه عملاً شاقاً ومُنفّراً لا طاقة له على الاستمرار به. والمسؤولية هنا تغدو، في ممارستها، نوعاً من التماثل مع الدرء والإبعاد. ذلك أن المسؤولية وضعيّة يتمتع بها الكائن الحر الذي نفتقده في حيثيات هذه الصياغة التي تخصّ فعل القراءة.
وأما الصياغة الأخرى فإنها تجعل من الفضول فعل حريّة يُمارس بالقراءة متحوّلا إلى فضول معرفيّ يجعل من السؤال مُحرّكا للتأويل والاستقصاء الذي يبقي القارئ أميل إلى الاتصال بالعالم، وبالمعرفة كصورة عن هذا العالم. وهذا ما يجعل من القراءة عنصراً بنيوياً في حقل الضرورات التي تحكم امتلاك المعرفة، وبالتالي القوّة التي تتيح للفرد أن يتحكّم بإدارة مصيره وقدره محوّله إياه إلى ما يمكن دعوته (الفاعل الفردي) الذي يمثل وجهة نظر تستمد وجودها وبقاءها من الجدل المستمر بين الذات والآخر، أي بين نصين هما القارئ والمادة المقروءة.
كاتب وشاعر سوري | خاص مجلة قلم رصاص