زيد قطريب |
مجزرةٌ أخرى تُرتكب بموازاة بحيرات الدم: معجمٌ بساقٍ واحدة وعينين مسمولتين يتلمّس طريقه بين العبارات المدهونة بعشوائية فوق جدران الكونكريت وعلى الحيطان المتهدمة، حيث الجنود المحدقون بخوف في وجوه العابرين، يبعثون رسائلهم الهشّة عبر الواتس آب إلى الحبيبات المنتظرات بلهفة خلف “الوايرليس”..
“من أجل عينيكي عشقة الهوء”، يكتبها المقاتلُ بثقة وهو يضغط على زناد الحرف في الجبهة المواجهة لجوبر… “لولو.. ميرا.. فوفو.. من هنا: بحبكون” يحفرها الحارسُ فوق الجدار الشرقي لقلعة دمشق منذ عدة سنوات على الأرجح، لكنه ينسى ترك توقيعه الذي يسمح بالعثور عليه كمؤلف لتلك العبارة التي قرأها كل الراكبين في سرافيس الزاهرة كراجات، على الأرجح أن ذلك الجندي كان يتذكر بناته قبل أن تلتهم قلبه الحرب وتفرض عليه أن يختار دور القاتل أو القتيل!. الكلمة هنا، خارج سياق النحو المعروف، لأن الصرف يجلس بالمرصاد ويكمن خلف السواتر والأعداء المتكدسين وراء بلوكات الشمينتو والخنادق.. “أنتصرنا”، يكتبها المقاتل هكذا، بهمزة فوق الألف، ثم يتلوها بكلمات لا تحتمل أسنان السين التي تندمل مع اللفظة لينقلب المعنى بناء على البعد الاستراتيجي للمعركة..
المعجم المدمر، يحمل وعاء الكلمات ويدور مع رشاشات الدوشكا، كي ينسج على منوال قصيدة العبد الولهان: “ولقد ذكرتك والرماح نواهلن مني..” افتتاحياتٍ عصريةً لمعركة بدأ معجمها بأحرف الجر، ثم ساق على المنوال، شعراء وعاشقون يجلسون تحت شجيرات النخيل في باب توما، كي يكتبوا على الدشم المواجهة للسيارات: “أوكي”، ثم يهرعون إلى المناوبات الليلية كي يحفروا على أشجار الكينا الأحرف الأولى من أسماء الحبيبات في القرى البعيدة عندما يشعلن البخور ويقولون أي شيء كي لا يستقبلن أحبتهنّ شهداء!.
إذا صحّ القول بأن لكل معركة لغتها الخاصة، فإن معارك اليوم جرّت ويلاتها على كل أدوات النصب، في حين رفعت شأن أحرف العلة مثلما حذفت أحرف التثنية والجمع والعطف.. معركة تحتاج إلى معجم بعينين ضامرتين ومخّ يشبه الكورن فليكس، بحيث أن الكاتب يمكن أن يلجأ للإيماء بالذراعين وهزّ الرأس، عندما يستعصي عليه “لسان العرب” المحكوم بالتأتأة والتردد وعدم القدرة على حسم الخيارات في هذه المرحلة حتى لغوياً.. هكذا يتشظى المعجم على “الطينة” المتسلخة قرب السواتر التي توزع آيات القرآن الكريم بالعدل على المتحاربين وهم يحنّون إلى الحبيات ويكتبون إليهنّ عبارات لا يقدر على فك ألغازها إلا الزمخشري!. حتى هم شخصياً، يضحكون من كل قلوبهم وهم يستعيدون لحظات الخطر عندما تكتب معجمها الخاص بمعزل عن مجامع اللغة وطرابيش الفعل الثلاثي!. الوقتُ الآنَ للفعل المزيد، والزائد، والمتعدي، يقول الشابُ الملتحي وهو يحرك الكلاشينكوف بيديه النحيلتين ثم يشير إلى دفتر المسوّدات الذي يقتنيه في البدلة المموّهة التي لا تكشف مع أي ميليشيا يعمل: “من أجل عينيكي عشقة الهوء” يعيدها الجندي المحاصر عند برج المعلمين ثم يكتب: “بحبك يا كلبة”!.
شاعر وناقد سوري | خاص مجلة قلم رصاص