الرئيسية » مبراة » حقاً..الدم ليس أحمر

حقاً..الدم ليس أحمر

«إلى روح الأديب والقاص الصحفي السوري محمد جاسم الحميدي»

يا خال..

لست هنا في مقام أن أرثيك، أنا فقط أحاول مغالبة آلامي التي خلفها فراقنا القسري المُضني قبل سنوات، وأجهد روحي في رتق جراح قلب فُجع باختطافك ثم بمرضك ثم برحيلك، قلبي الصغير لا طاقة له على صروف الدهر ولم أكن مستعداً لرحيلك الآن، ولم أنضج كما يجب كي أرثيك بكلمات تليق بك، بحضورك، بغيابك المُفجع، إلا أن ضنك القلب يُغالبني ويأبى إلا أن يبوح بمكنونات الروح ويفضح آلامها.

لا عزاء لي في غيابك إلا أني لازمتك في السنوات الماضية مثل ظلك، وخبرتك كما خبرت أسرار مغاور وكهوف وتلال شط الفرات التي زرناها معاً، لكنك طوال سنوات فراقنا لم تتغير فقد كنت في الموت كما كنت في الحياة، هادئاً عميقاً ولم تهتز للنائبات، ولم تسمح لقلبك أن يخذلك، قاومت حتى الرمق الأخير لكن بصمت، سحرني مذ عرفتك الهدوء العميق فيك، وجلدك على معاندة الفقد، الأم، الأب، والأخوة القدوة في الحياة والأدب، ثم الأحلام والأمنيات ثم الفرات ثم الوطن الذي خسرته وأتعبك حياً وميتاً، وليس وطن الميت إلا قبراً يجاور فيه أحبة سبقوه، عشت محروماً ورحلت محروماً، وسُجيت في أرض غريبة، لا ليست غريبة وأنت خير من خبر البوادي بطولها وعرضها على امتداد رقعة الوطن الذي حملته في فتوتك ولم يحملك في هرمك!

يا تُرى ما سر ولعك بتلك الأرض اليباب وبحثك الدؤوب في تفاصيل أسرارها، هل كنت تبحث عن قبر لك؟ لماذا لم تخبرني حينها، بُحت لي بالكثير عن أسرار الحياة، لكنك لم تخبرني عن سر الموت.

ساعترف لك بسر، كنت أخاف عليك، لا بل أخاف على نفسي من غيابك المفاجئ، كلما قمت لتعد القهوة لي ولك يُرهبني منظر المكتب وتلك الكتب المفتوحة، ونظارة القراءة السميكة، يصبح المكان بلا روح مذ لحظة خروجك، كنت أخشى أن تتركني وحيداً، أن اضطر يوماً لتوثيق لحظات أيامك الأخيرة، لكن يا لسخرية القدر تركتك وهربت ناجياً بنفسي.

أثق أن موتك لم يكن طبيعياً ومرضك المفاجئ لم يكن طبيعياً ورحيلك عنا كان خارج توقعاتنا ولم نتحضر للوداع بعد كما يليق بك، لذلك خانتنا الكلمات ونحار ماذا نكتب فيك وعنك، كم كنت ارتجف وأنا أناولك مداد حروفي على الورق، كم كان يرعبني القلم بين يديك وترهبني النظارة السميكة أعود تلميذاً في الفصل الدراسي أمام مُعلمه الذي يبتسم عند كل خطأ عارض.

وها أنا اليوم أكتب عنك ويتجدد شعور الخوف لأني أعلم علم اليقين أنك تقرأ حروفي، وأنك ما زلت تشجعني وتدفعني للانطلاق بأفكاري والتحليق في فضاءات الحرف والكلمة، مؤلمٌ هذا الرحيل المفاجئ يا خال، يا حكّا أساطير الفرات، لماذا لم تخبرني أن الدم ليس أحمر، لماذا أخفيت عني ذلك، لماذا لم تخبرني أنك ميت منذ زمن بعيد، لماذا يا خال، ألست أنت من كتبت هذه الحروف؟

“نعم يا سيدي أنا ميت منذ زمن بعيد” يبدو أنك أشفقت علي، وأردت أن تخبرني عن دروب الحياة وتبعدني عن دروب الموت، أردت أن تكون قرباناً لحياتي وكنت..

سامحك الله يا خال..سامحك الله.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …