ألهم “الربيع العربي” العالم تاريخاً جديداً بدأت الأقلام بتدوينه منذ شرارة “البوعزيزي” في تونس، حيث وقف المثقف جانباً كمراقب في مشهد يحاول اللحاق به، تحول فيه الشارع إلى خالق حياة أخرى وثقافات مختلفة عما كان سائداً طيلة النصف قرن الماضي، وكتاب “قداس السقوط” للشاعر والباحث الجزائري أحمد دلباني (دار التكوين2012) هو نموذج لمراجعات فكرية واجتماعية لحقت بالربيع العربي من وجهة نظر ثقافية تعتمد النقد والمحاكة الواقعية بأسلوب أدبي يقوم على الستعارة التشبيهية في تعرية الواقع المرير الذي أوصل الشارع العربي إلى انفجارات كبرى في صفوفه المدجنة حتى يعيد حسابات الطغاة في أخذ حقهِ بإرادة وكرامة.
في مقدمته للكتاب يبدأ دلباني حديثه عن ساعة الحسم الشعبية التي ستيقظ “تنين المعنى” برؤوسه السبعة، وستجعل الحرية أيقونة تتدلى من السماء بعد أن صبغتها أنفاس الحناجر الهاتفة في شوارع المدن الثائرة، وبعد أصابت سهام الأزمنة الحديثة بناء الرمز والدلالة في جذوره، هاهو العالم العربي يقول لا للحاكم الذي جعل الشعب يترنح على أرصفة البطالة الحضارية، سيدفع الحاكم اليوم ثمن سحقه للإنسان باسم الأمة والوصايا والعقائد الحديثة: (لقد حانت ساعة الحسم ولا عاصمَ اليوم من أمر الثورة والتغيير. العالم العربي ظل ضيفاً ثقيلاً على التاريخ منذ زمن بعيد نسي الترياق السحري الذي بإمكانه أن يبعثه من الرماد) هذا الترياق جاء على شكل ثورات شعبية منتفضة.
ثم يطرح الكاتب سؤاله الذي سمي الفصل الأول من الكتاب به (أيتها الثورة، ماذا بعد قطع رأس الملك؟) لتأتي بعده مجموعة مقالات تحليلية تدخل تدريجياً في المسببات الجوهرية التي قامت عليها الشعوب العربي بثوراتها السياسية والاجتماعية ضد القهر والتهميش، من هنا يعتقد دلباني أن لكل فرد الحق أن يشعر “بنشوة نيرونية لمرأى نيران الانتفاضة الشعبية تأكل عروش الاستبداد والفساد وتنتفض ضد وضع لم يعد يحتمل” وتعبر التكنولوجيا بطيفها الكبير في العقول العربية لتنتج “حصان طروادة” من نوع خاص تسلل ذات يوم خفية إلى جسد مجتمعاتنا حاملاً إليها هدية عولمية خطيرة: وسائط الاتصال الجديدة، هذه الوسائط التي حاولت السلطة أن تجعلها في خدمتها لتصبح تطلعات البشرية في الحرية والعدالة والكرامة مجرد شعارات تحول فيها الفرد إلى دمية أو ببغاء.
رفض الشباب العربي أن تكون نهاية التاريخ على وعود الطغاة بالتغيير، بل وجدوا من أنفسهم محركاً غاضباً على الأرض لقلب موازين اللعبة في حياتهم، وهنا جاء دور المثقف الذي غاب طويلاً تحت لواء السلطة والقمع والمؤسسة الرسمية التي دجنت فكره، ليحاول مع ثورة الربيع “الاستبصار والنقد لمواكبة حركة التغيير منعاً من وقوعها في أحابيل ما كانت تنتفض ضده”.
في نهاية هذا التقديم يشير دلباني إلى مقولة “ميشيل فوكو” أنه من المؤكد أن السلطان لا يزول بمجرد قطع رأس الملك، السلطة أمر معقد فعلاً وهي تخترق نسيج الهيئة الاجتماعية ولا تمثل امتيازاً لفئة تستأثر بالحكم، ليست الثورة هدفاً بذاتها وإنما هي وسيلة لتحرير القدر الإنساني من كل أشكال الاستلاب في أنظمة القمع والتدجين، بحسب الكاتب، إذ يعتبر هذا التنظير الفكري غوصاً جوهرياً في تفكيك مفهوم الثورة العربية وضرورة يجب الالتفات لها في كل تغيير يطال المجتمع والدولة.
في ضفة أخرى يدخل الكاتب إلى تعريفات حول الثورات العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد “قد يعود البرابرة” وهذا التعبير الأخير يطرح في تصور مجتمع لم ينجز ثورته الثقافية بعد؟ لأن البلاد التي تسودها ثقافة البطريركية (عطفاً على رؤية غابرييل غارسيا ماركيز في روايته “خريف البطريرك”) وقوى الممانعة السيوسولوجية تدفع بشراسةٍ عن موقعها ودورها التقليدي في قيادة المجتمع، ومن هنا يرى الكاتب ان مشكلتنا تكمن في كوننا -عرباً ومسلمين- في أننا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنما أعدنا إنتاجه في أشكال جديدة من الاصولية العقائدية والانغلاق الايديولوجي المذهبي الذي اعتقل العالم والحقيقة في شباك النظرية والكلمة الأولى التي ادعت أنها تعلو على وقائعية العالم وفجائعيته، بتعبير أدق “إننا لم نشهد عطلة الآلهة ميلاد، مركزية الذاتية الإنسانية، كما يعبر هيدغر وهو يتحدث عن أسس الحداثة” وبهذا الكلام يحاول منهج الكتاب ونقاشاته أن تقدم نقداً ثقافياً بالمفهوم الشامل “نقد سياسي يحاول أن يذهب عميقاً في الكشف عن الآليات السوسيو ثقافية الخفية التي تؤبد سلطة المخلص والزعيم الأوحد وتعطيها مشروعية ومعقولية عاطفية عند الجماهير العربية”
وبعد عبور القارئ لتلك المفاهيم النظرية التي يقف عليها الكاتب، يأتي نص بعنوان (رسالة إلى مستبد عربي) يوجهها دلباني بلغة هجاء وتهكم إلى الحكام العرب، إلى الطغاة في كل مكان على الأرض، متوقعاً نهايةً حتمية للظلم، ومتسلحاً بالأحداث الخارجة عن منطق “التاريخ يعيد نفسه” بل إن الشعوب الآن تكتب نفسها بعد أن سقطت من قاموس حكامها حقوق الحرية والعدالة وتحرر مارد الطغيان القديم من قمقمه، يقول دلباني في رسالته تلك: “كانت الأرض تئن تحت سوط لاهوتك السياسي وقد جعلتهُ لغة أولى وتنزيلا لا يأتيهِ الباطل. وكانت حياتنا مليئة بمشانق تتدلى منها أحلام صغيرة ولدت من نزق البحث عن المعنى خارج أسفارك المقدسة” يشير الكاتب على طول هذه الرسالة بأنهم كشعوب كانت تبحث عن عقل يستنبت في أفق الحياة ثمراً عجائبياً يمنح الخطيئة لذة السقوط في منافي الحرية، بحسب تعبيره.
كما يناقش دلباني “الشرعية السياسية في الزمن الثقافي” هذه الشرعية التي أغلقت العقل العربي على أبسط المطالب الحياتية التي تبحث عن الإستقرار والأمان على حساب المعرفة ورفض الاستبداد والعبودية والوقوف إلى جانب طبقات الشعب المضطهدة والمجهلة “مشكلة الشرعية ليست مشكلة سياسية فحسب، إنما هي، بالأساس مشكلة ثقافية بالمعنى الواسع. إنها مشكلة البنية الذهنية التي لم تلج بعد فضاء الأنسنة والعلمنة وبقيت تسبح في مناخ التقديس والوعي السحري الخلاصي للعالم”
بينما في الفصل الثاني من الكتاب يذهب الباحث نحو تجارب في نقد النظام الثقافي العربي لنتعرف معه على شذرات حول بعض مآزق الثقافة العربية السائدة “متى ينتهي نشيد البجعة” وميتافزيقيا الجلاد كما حدث مع أدونيس حين انتقد الوحدانية، إضافة إلى المصير الكارثي الذي عانى منه المفكّر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد في محاولته قطف الثمرة المحرّمة.
في “قداس السقوط” بناء سردي يعتمد في شواهده التاريخية على مراجع لمفكرين وفلاسفة عرب وأجانب لكنه في جملته التحليلية الساخطة الأهم يخطو باتجاه القراءة الراهنة للواقع العربي الجديد كما وصفه الشاعر والباحث أحمد دلباني من خلال النماذج التاريخية والمعطيات اليومية التي تنتج وتتصاعد، بعد أن أخذ الربيع العربي يتوغل في الثقافة والفكر والسياسة، ليعيد بناء التاريخ وفق ما تريده الشعوب رغم كل العنف الدموي الذي تعرضت ولا زالت تتعرض له في ظل الطغيان المنهار في شارع كان خير دليل لذاك التغير القادم.
كاتب وصحفي سوري | خاص موقع قلم رصاص