فراس موسى |
أعترف أنّ أصابع النورانية والبهاء لامست روحي، وأنّ مغنطة جاذبة استوطنت قلبي وسرقت حواسي، وأنني الآن مبلّل بالدهشة والخدر، وأنّ كفّاً واحدةً لا غير تفصل أعصابي عن هجعة الذهول. كيف لا وأنا أفتح بوّابة عتيقة تنام على موسيقى مفاصلها، وألج.. ألج مسوّراً بالمحبة الغامرة وبالبهجة العارمة دارة شاعر كبير هو سعيد عقل، فينفرط فوقي الجمال والسحر كانفراط العناقيد.
أدخل عالم سعيد عقل، وأغمّس ريش أهدابي في فيروز سماواته الرحاب، وأحاول أن ألمّ بمنقاري الصغير حبّاتِ القمح من جيوبه الطافحات.
أعتقد أنني لا أبالغ حين أقول إِنّ سعيد عقل هو (الأب الشرعي) للعديد من الشعراء العرب، وأعتقد أيضاً أنني لا أتجنّى على أحد إذا قلت إن عدداً لا بأس به من شعرائنا المعاصرين خرج من تحت عباءة هذا (الكبير)! وتلقّى دروس الشعر الأولى في مدرسته. لم يغمر شاعر عربي بحب وعاطفة مثلما غمر سعيد عقل، ولم يحظ شاعر عربي بمعروفية ورضا مثلما حظي هو.
لقد كان عقل قام أدبية من عيار ثقيل لامست سقف السماء، وصاحب موهبة فريدة نادرة، وذهنية باذخة غنية. امتلك عقل مفاتيح الدهشة والإبداع الصافي كصفاء سماوات لبنان وأنهاره، وكتب قصائد باهية شاركتنا أسرتنا الدفيئة، وأضاءت عتمتنا مثل النهارات الندّاهة، قصائد لم تزل الدنيا تعبّ منها وتسكر.
دوّختني لغة سعيد عقل الأنيقة مثلما دوّختني قصائده التي مجّدت الحب والجمال، والتي احتفت بلبنان، ونبعاته، وقراه، وأفياء أشجاره، وزرقة أمواجه الدانية. لقد كان عقل ثروة شعرية مذهلة نادرة الوجود أغنت مدونة الأدب العربي، فقد ظلّ على مدى سنين عمره التي نيّفت عن المائة يشتغل ويعطي مثل (قفير نحل) ولكن هذا المفكر العملاق المسكون بالقلق الدائم رماني في مياه الحيرة، وزرع الاضطراب والأسئلة الكاوية في نفسي، فكيف يمكن استيعاب أنّ سعيد عقل الذي وهب اللغة العربية صباح عينيه وخلايا قلبه، وعبدها كما لم يعبدها أحد سواه، ودوّن بها أشعاراً ستبقى خالدة خلود جبال لبنان وتاريخه يصرخ وبالصوت الجهير داعياً إلى محو اللغة العربية وشنقها، بل وسعى أيضاً إلى إبدالها بلاتينية شحب وجهها، وتخشّبت مفاصلها، وهجرها أهلها، ورموها في مقابر النسيان، ثمّ كيف يمكن لنا أن نفهم بعد هذا (ثورة) سعيد عقل وهجمته الشرسة المجنونة التي شنّها على الفلسطينين في بواكير الثمانينيات حين نادى بإخراجهم من بيروت يوم كانت نيران الحرب الأهلية تحرق جسد لبنان.
إنني أحبّ سعيد عقل، ولست أنوي أبداً إدخاله إلى قاعة محكمة، لكن استغراباً موجعاً يلسعني، ويقف شوكةً في قلبي، وتساؤلات مرّة تحاصرني كلّما طالعت مدونته، وكلما استرجعت تاريخه العابق بالمجد العميم.
سعيد عقل غابة شعر محتشدة بالبراعة والأسرار، ونافورة عشق لن ينشف غناؤها ما دام هناك شمس تضيء، وأرض تدور، ومواعيد تنتظر من يقطفها.
شاعر سوري فلسطيني ـ ألمانيا | خاص موقع قلم رصاص