ياسر اسكيف |
لم أر أسداً مُجنّحاً حتى في أفلام الرسوم المتحرّكة، ولكنني، وفي وثائقيّ عن القطط الكبيرة، رأيت دموع أسدٍ هرم ٍ، أسد تخلّعت أنيابه وبات عاجزاً عن الافتراس، فراح يذوي دامعاً. أسد الوثائقيّ رأيت بكاءه. وأما أسد (بابل) فقد سمعتُ بكاءه دون أن أرى دموعه. إلا إذا أجزت لنفسي أن أدعو الغبار الذي تطاير من الكتلة الحجرية البيضاء دموع. نعم سمعتُ أسد بابل المُجنّح يبكي، وكان لبكائه صوت مِثقب، وطرق مهدّة تهوي بحقد يذيعُ الخوف. حدث هذا، وكان اختلاطاً، لم تدبّره الصدفةُ، بين السواد والبياض، ويمكن القول كان مواجهة. ليس بين إيمان ٍ وشُرك، بل بين فراغ ٍ أعيد تشكيله يوماً بالحركةِ التي تختزنها المنحوتات وتطلقها في كل لحظة، وبين فراغ يُعادُ تشكيله بالسكون، الفراغ الذي لا يحتمل ناهضاً أو مُتحرّكاً. وهذا ليس بجديد، إذ يمكننا أن نعثر على جذوره في القول (لا تترك قبراً شاهقاً إلا وتسويه، أو صنماً ” تمثالاً” إلا وتحطم) لقد حطّم الرسول محمّد أصنام الكعبة، لصالح ِ سُكنى الله، وكانت الكعبة لآلهة قبائل العرب جميعاً، وغدت بيته الحرام. انه إقرار الواحديّة مقابل الشرك، الذي ينعكس رمزياً بالسيطرة على تشكيل الفراغ. واليوم، أمام الوحشية التي لا أظنها تمتلك مبرّرها حتى عند ممارسيها، لا بدّ من السؤال عن مدى علاقة المنحوتات الأثرية البابلية والآشورية والتدمريّة، وغيرها، بعقائد الشرك وطقوسه. ويليه السؤال عن حقيقة، ومصدر، قناعة المُدمّرين باعتبار تلك الأوابد على علاقة بالشُرك، أم أن هنالك حقيقية أخرى تقف وراء هذه الهمجيّة.
إذ رأينا في سنوات الربيع العربي الكثير من الأزهار التي تفتّحت دماً من أجسادٍ تحتفي بهزيمتها خارج كل معاني الخوف، وأبعد عن كل وصف للحياة والموت. وكانت أدوات السلف، على الأغلب، هي من يحرف دوران الدم عن مجاريه الطبيعية، إذ عادت السواطير، والسيوف، والخناجر، والسكاكين، والقضبان المعدنية، لتحتلّ مساحة، تثير الريبة، فيما يخصُّ وسائل القتل، التي أدخلت الميديا، من خلال عاديتها كأدوات، إحساساً لدى المُشاهد بأنه شريك فيما يجري، أقلّهُ شعوره بالعجز، وأكثره استخدامه لبعض هذه الأدوات في عيشه اليومي. ورأينا أيضاً رأس أبي العلاء المعري يتهاوى بتهمة الزندقة والكفر، وليس بتهمة الصنميّة التي ترمز إلى الشرك. واليوم تتهاوى آثار حضارات بلاد الرافدين بذات التهمة التي وجّهت إلى كتلة من التمر، أو من العجين، وضعتها جماعة ما حول الكعبة. لدرجةٍ تجعل من أي متابع، بمعزل عن مدى ثقافته ومعرفته، يفكّر بحقيقة الدوافع، وبصدق النوايا، حيال تحطيم آثار وشواهد تعود في عمرها إلى آلاف السنين، وفي وقت يدرك الجميع بأن لا علاقة، مشاعريّةٍ، أو طقوسيّةٍ، لهذه التماثيل بأيّة وثنيةٍ أو شرك.
وهي بنظر الجميع مُجرّد علاماتٍ لا أكثر تلقي الضوء على السوية الحضارية والمعرفية والثقافية التي كانت عليها الشعوب التي أنتجتها. وهذا يدفعنا للتفكير بدوافع الحقد الأعمى على غير المُزامن، أو المُحايث، فيما نفترضه صراع وجود يطرحه، بالقول والفعل، فكرٌ تكفيري، إلغائي، إقصائي، وبالمُختصر همجي، وما قبل إنساني. هذا إذ سلّمنا، من باب الافتراض، بجوازه، أو بصحيّته وطبيعيته، على المزامن والمُحايث.
هل تقودنا المُعطيات المتوفرة، والممارسات الموصوفة، إلى التوقف حقيقة عند واقعةٍ، رغم كارثيتها، لا تتعدى في دوافعها مسألة الغيرة الدينية، والحرص على عدم الشرك بالإله الواحد الأحد؟ أم أنّ الأمر يتعدى ذلك إلى أبعد مما هو ديني، وبالتالي يجيز لنا القفز فوق حاجز (المؤامرة) إلى الثقافي، الذي هو أعم وأشمل من الديني المحدود؟ وربّما كان البياض، الذي تشظي وتناثر تحت وقع ضربات المطارق، أو الذي تطاير غباراً، فيما التماثيل، والقطع الأثرية تتهاوى، بينما تتنقل شقيقاتها الصغيرات من مزاد علني إلى آخر في أكثر من عاصمة أوربيّة، يؤسس لمدخل يقودنا إلى قراءة غير بريئةٍ لفعل التحطيم والإزالة الذي مورس ضدّ كربونات كالسيوم محايدة إلا في دلالات تشكيلها للفراغ.
البياض فاصلة، أو برهة بين كونين، أو وجودين. وبهتكه، أو بإلغائه، يفوّتُ الفاعلون الفُرصة َ على اتصال زمنين انقطعا، أو استمرار زمن ٍ مُختلفٍ من مساحة بياضٍ انكشفت. أو أنهم يعيدون زمناً استمرَّ إلى مساحة البياض الموغل في القدم، بحيث يبدو وكأنه لم يكن زمن حدوث، أو مؤكّدَ وجود. ليس المسلّح الذي شاهدناه على الشاشات ينهال بمطرقته على أجساد التماثيل هو من يعي الهدف من فعله، إنما أولئك الذين أوقفوا الزمن لديه عند يوم الحشر، وبذلك اختصروه بلحظة واحدة هي لحظة الموت. هذا الاختصار الذي جعل من معناه خادماً لأزمنتهم، ومعزّزاً لهوياتهم. وبالتالي فالقراءة غير البريئة هنا تخصُّ علاقة الهوية وطمسها، أو لنقل البعض من ملامح الهوية، بالممارسات التي دأبت عليها (داعش) ضد البشر والحجر. تلك الهوية التي ترتبط بجدل وجود مع الثقافة. والتي أظهرت الأحداث التي عصفت بهذه المنطقة، في السنوات الأربع الأخيرة، بأنها ليست بمنأى عن الغايات البعيدة، بل والقريبة أيضاً، في محاولة لإحلال الديني، وبشكل كامل، مكان القومي، أو المحلي، لما في إحلال كهذا من محو لكل خصوصية، ولما يقدمه من خدمةٍ لفكرة الدولة الدينية. وهذا يعيدنا إلى السؤال عن الأس الحضاري الذي يمكن الحديث عنه عند البحث عن خيط يمكن أن يصل ما انقطع، في محاولة لقطع الطريق على اليأس من أن خصوصيّة ثقافية تسم شعوب المنطقة لا تبدأ من (صفر حضاري) ذلك أنه في حال أمكن الحديث عن ثقافة عربية لها نصيبها، ولو القليل، من النقاء فهي التي خبأتها الأرض، أو التي حفظتها ذاكرة الرواة، إذ أن كلّ من غزا هذه الأرض أو (فتحها !!) لم يترك شاهقاً. وإذا كان الاسلام قد قطع مع الماضي بالإلغاء والإبادة حيناً، وبالاحتواء والتذويب في منظومته الاعتقادية حيناً آخر، فإن هذا قد رسّخ وعزّز عقلية البدء من الصفر الإيحائي (نسبة إلى الوحي) ومن الصفر اللغوي (لهجة قريش) وما تفعله (داعش)، باستخدامها للمعدّات الهندسية الثقيلة لتدمير مدينة (نمرود) الأثرية، التي لم تنفع معها المطرقة و(الكمبريسور)، ليس إلا محاولة لإلغاء ما يمكن أن يشكّل (صفراً حضارياً) تعادل في إحدى تجلياتها القضاء على أي شكل للتنوّع مهما بلغت درجته في طيف الاختلاف. وهنا أعود للتأكيد بأن ما تمّ من تحطيم وإزالة لرموز بطلت رمزيتها منذ آلاف السنين، ليس إلا امتداداً لخوف، يستيقظ الآن، من أيّة رمزيّة ٍ تهدّد صفري الإيحاء واللغة، أو تقترب من تهديد منتجي، ومعيدي إنتاج، المقدّس بكلّ سواده المُعاند للحياة. حتى انهم يبدون، في لحظة ما، وبشحنة الحقد التي يفرغونها في الحجر، كأنما يعاقبون هذا الحجر على عيشه إلى اليوم.
كاتب وشاعر سوري | خاص موقع قلم رصاص