محمود عبد اللطيف |
يروي التاريخ أن السوريين عرفوا المسرح منذ ما يزيد عن ثلاث آلاف سنة من الزمن، فالمدرجات التي تركتها الحضارات المتعاقبة التي سكنت المنطقة، كانت شاهدة على تمثيل العديد من الملاحم والأساطير في كل من تدمر وبصرى وجبلة والسويداء وغيرها من المدن السورية القديمة، حيث ويدلل التصميم الهندسي لهذه المدرجات على قدرة الجمهور التقاط أي كلمة يليقها الممثلون.. ومما أكتشف من ألواح طينية نقرأ قصص وملاحم وأناشيد كانت تغني في طقس تمثيلي لألهه الخصب، ويمكن لنا أن نقول أن ابتعاد العلماء العرب عن نقل المسرح اليوناني يعود إلى وثنية هذا المسرح خاصة في تمثيليات الشاعر اليوناني .(سوفوكليس) والتي وصلت المئة مسرحية.
غير أن المسرح لم يكن غائباً بشكل نهائي عن الحضارة العربية الإسلامية، فثمة طقوس قدمت لظهور المسرح بشكله الفعلي في العصر الحديث مما أدى إلى عودة الفن التمثيلي إلى العالم العربي وإن متأخراً عن أوروبا عودة مدروسة على أيد أناس هواة .. ومغامرين بآن معاً، ويصنف الدارسون الحج والمواكب الحسينية وصلاة الاستسقاء طقوساً مسرحية على اعتبار أن الطقس الجماعي الذي يحظى بوجود العنصر البشري في مكان ذاته مقترناً بحركة جسدية معينة و نصاً ثابتاً يكرر في كل مرة نوعاً من المسرحة للطقس الحياتي..كذلك ثمة ظواهر أخرى سبقت ظهور المسرحيين الأوائل في العالم العربي.
ما قبل المسرح
الحكواتي، ظهر الحكواتي بعهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب حيث اعتمد الناس قبل ظهور الراوي على التواتر الشعبي لتداول الأحداث التاريخية والسيرة النبوية، ومع ظهور التدوين ظهر الحكواتي حيث سمي بمصر “الراوي”، وفي العراق “القص خون” بينما يطلق أهل المغرب على من يقص الحوادث اسم “المحدث” وفي بلاد الشام “الحكواتي وفي زمن الاحتلال العثماني للبلاد العربي برز الحكواتي ظاهرة قوية في بلاد الشام ويحتفي جدار مقهى النوفرة لحكواتي دمشق الأول عبد الحميد الهواري أبو أحمد المنعش من مواليد 1885 والذي توفي عام 1951. ويكون للحكواتي في غالب الأمر كرسياً مرتفعاً في المقهى ليراه الجميع ويردتي لباساً شعبياً وله من الأدوات المساعدة على سرد الحكاية ما يفيده فالسيف أو العصا أداة مهمة في سرد قصة الظاهر بيبرس أو الزير سالم أو ابي زيد الهلالي، وفي كل مرة ينقسم جمهور المقهى إلى فريقين يميل كل منها إلى طرف من الحكاية فثمة من كان يرى في جساس مصيباً فيما فعله حين رمى كليباً بالرمح فيما يذهب الفريق الآخر إلى اعتبار الزير سالم مصيباً في استمرارية ثأره لأربعين سنة، ومن هنا بتبين أن الحكواتي كان حالة تمثيلية بكل معنى الكلمة من حيث اكتمال عناصر المسرحية من نص وممثل وجمهور تأخذه حالة الايهام إلى التفاعل مع الحكاية ليكون جزءاً منها.
خيال الظل
يعود تاريخ خيال الظل إلى ابن دانيال الموصلي المؤسس الحقيقي لمسرح خيال الظل فلم يسبقه في هذا المجال أحد، وهو إبداع متفرد سار على هديه العديد من الذين أتوا بعده حيث لاتوجد أشكال تمثيلية ترجع إلى قبل تاريخ ابن دانيال الموصلي في أي بلد آخر، لذلك فإنها الأولى من نوعها في العالم أجمع ويذكر التاريخ في كتب عدة أن صلاح الدين كان يطرب لتمثيليات خيال الظل و بأن السلطان ابي السعادات وهو أحد سلاطين المماليك كان يطرب بهذه لتمثيليات في احتفاليات عيد المولد النبوي الشريف ووصل الهوس ببعضهم أن كان يصطحب معه ممثل لخيال الظل إلى الحج، غير أن السلطان جمقمق أمر بأحراق كل تمثيليات خيال الظل كما يذكر ابن ياس في كتابه (بدائع الزهور). كما أن السلطان سليم (السلطان العثماني) اهتم بتمثيليات خيال الظل حتى أنه أخذ معه أحد الممثلين إلى اسطنبول لتمتيع ابنه الذي صار سلطاناً بعده وعرف بالسلطان سليمان الأعظم، وقد وجدت في مصر مخطوطات في فن تمثيل خيال الظل ترجع إلى عهد قديم مؤلفها (محمد بن دانيال الموصلي) المتوفي عام 1311م وهو طبيب عيون، وكان يعيش في زمن السلطان الظاهر بيبرس، وعدد المخطوطات التي وجدت ثلاث لتمثيليات ألفها ابن دانيال هي: (طيف الخيال، عجيب وغريب، المتيم)، وقد أطلق عليها تسمية بابات نشرت هذه الـ (بابات) للمرة الأولى في المانيا عام 1925 م من قبل جورج جاكوب ضمن كتاب (تاريخ مسرح خيال الظل في الشرق والغرب) حيث يوضح جاكوب بأن ابن دانيال أعظم شاعر ممتع في اللغة العربية. و لخيال الظل شخصيتان شهيرتان هما (عيواظ وكركوز ) فلا يعرف خيال الظل إلا بهاتين الشخصيتين اللتين كانتا المتنفس الحقيقي لضيق الانس من تصرفات الحكام آنذاك ويوصل لجمهوره في المقاهي والساحات ما يريد الممثل أن يوصله من رسالة توعوية أو انتقاد مباشر لسلطة الحاكم أو الوالي العثماني و إن ذهبنا بالتاريخ على تلك التصرفات لوجدنا أن (خيال الظل ) كان الرقيب المباشر على عمل الولاة لكنه رقيب عاجز عن التأثير في الحدث , وهنا نعود إليه كطقساً تمثيلياً متكاملاً من حيث انتقاء الممثل (محرك الدمى ) للنص الذي يسرده عل جمهور يغوص في عمق الحكاية التي تعنيه بشكل مباشر.
المولوية
تأسست “المولوية” على يدّ جلال الدين الرومي المولود عام1207 في القرن السابع الهجري في “أفغانستان”، والده عالم ديني من “بلخ” الواقعة في “إيران”، والدته من أسرة حاكمة في “خوارزم وهي فقيهة في علوم الدين والشريعة، و”الرومي” له مؤلفات موجودة في الشرق والغرب وتؤدى المولوية بحيث يضع المولوي على رأسه الطربوش ويرتدي تنورة بيضاء طويلة حتى القدمين وحين يبدأ بالرقص يثبت قدمه اليسرى على الأرض ويحرك اليمنى ويدور بعكس عقارب الساعة، رافعاً يده اليمنى نحو السماء طالباً الرحمة والخير من “الله” ويده اليسرى يجعلها باتجاه الأسفل رافضاً للشر أيّاً كان وجوده، وحركة اليد الممدودة والأخرى على الكتف للتحية ورونق الأداء، واليدين مضمومتين على الصدر بشكل متعاكس والجسد ثابت والرأس محني، تقليد مأخوذ عن “جلال الدين الرومي” أثناء تنفيذه “للمولوية” والبرد من حوله يجمد أطرافه، فضم يديه إلى صدره للشعور بالدفء والحرارة وباتت حركته مرافقة للأداء بشكل دائم، ونتيجة لاعتناء الصوفي بالقلب باعتباره مركز الحب الإلهي أوحى هذا الاعتناء بالرقصة الصوفية إلى “جلال الدين الرومي” عندما خرج لصلاة الفجر فرأى الورد والزهور والربيع والندى والجمال والنقاء وسمع زقزقة العصافير، ففتح قلبه للدنيا وراح يدور، قائلاً: (مجرات النجوم تدور، وجميع الكواكب تدور، والدورة الدموية في الجسم تدور، وحجاج بيت الحرام حول الكعبة يدورون، وقطرات الماء في الدنيا من البحار إلى السماء فالأرض عائدة إلى البحار، إنها تدور). على هذا فأن المولوية طقساً تمثيلياً أخر من الطقوس التي مهدت لظهور المسرح بشكله الاعتيادي في دمشق ومنها إلى العالم العربي.
رقص السماح
عرف هذا الرقص في مدينة حلب، ويقترن تاريخه بتاريخ لفن الموشح.. فقد ارتبطا معاً.. ومعاً نضجا في الزوايا الدينية وهي الأصل الذي خرج منه رقصُ السماح ليكون في كل تطوراته اللاحقة رقصاً راقياً محتشماً..دقيقاً، ولأنه رقص جماعي فقد احتاج إلى التناغم والتوافق في الأداء الحركي الشامل للجسد.. وكان للثياب التي يرتديها الراقصون (أو الراقصات فيما بعد) دور مهم.. فكأن هذا الرقص قد جمع كلَّ أبعاد زمانه الفنية والثقافية من حيث : الموسيقى والتي تجلت في لحن الموشح، والشعر (شعرية الموشح) نفسها، والبعد الإنساني (التجلي الجسدي والنفسي للراقص أو الراقصة) بالاضافة إلى الأزياء وهي بعدٌ فني مهم في التشكيل النهائي لهذه اللوحة الفنية التاريخية وهنا تكتمل عناصر المسرحة التي تحتاجها المسرحية للنهوض بذاتها من نص وحركة وتقنيات مساعدة (الأزياء – الاكسسوار …إلخ).
بداية المسرح السوري
المسرح ما قبل القباني بدأ المسرح في شكله الحديث المستورد من أوربا مع عرض مسرحية «البخيل» لمارون النقاش في منزله ببيروت عام 1848، فقد كانت انطلاقته امتداداً لأفكار عصر النهضة العربية، التي حملتها البرجوازية المدنية الناشئة على أكتاف مثقفيها، ممن احتكوا بالغرب وأتقنوا لغاته، أو بالأستانة العثمانية المهيمنة. هذا إلى جانب امتلاك هؤلاء المثقفين معرفة واسعة بتراث وطنهم ولغته، ووعياً كافياً بضرورات المرحلة التي يمر بها على مستوى الثقافة التنويرية. إلا أن مبادرات هؤلاء المثقفين لإيجاد المسرح على مستوى الإعداد والتأليف والترجمة والعرض كانت فردية ومتباعدة لأسباب عدة، منها ظروف الهيمنة العثمانية وسياسة التتريك المعادية لأي توجه عروبي، إلى جانب الرجعية الدينية آنئذ المناهضة لحركة التنوير #ظهور أبي خليل القباني في عام 1871ظهر أحمد أبوخليل كأول مسرحي عربي وقد اسس لمسرحه في دمشق وقدم ناكر الجميل – انس الجليس – عروضاً مسرحية غنائية هامة منها (هارون الرشيد – عايده – الشاه محمود – وغيرها ،) ويعود الفضل للقباني في قيام حركة مسرحية في سوريا وفي الوطن العربي بعد ذلك. واجه القباني من أجل نشر فنه العديد من الصعاب والعقبات إلى ان نجح في استقطاب الجماهير لمتابعة عروضه ومسرحياته ولاقى نجاحا كبيرا بالعروض التى قدمها في بداياته بدمشق وكانت الناس تتهافت لحضور مسرحياته وعروضه الغنائية، وكان القبانى في البداية متابعاً ومعجباً للعروض التى كانت تقدم في مقاهي دمشق مثل قصص الحكواتى ورقص السماح والعروض التي كانت منتشرة في مقاهي مدينة دمشق فكان من متابعي اجتماعات وعروض موسيقا ابن السفرجلاني بدمشق وتعلم منها واختلط القبانى بالفرق المسرحية التى تمثل في مدرسة العازرية بمنطقة باب توما ، ومن كل هذا كون احمد أبو خليل القباني أسس هذا الفن الراقي لينطلق به من دمشق ويطوره واضعآ آسس المسرح الغنائي العربي ففي العام 1871 قدم أول عرض مسرحي له وهو (الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح) وهي أول مسرحية سورية وعربية وفق مفاهيم المسرح، وقدم بعد ذلك مسرحيات وتمثيليات ناجحة أعجب بها الجمهور الشامى بدمشق وفي عام 1879-1880 أسس فرقته المسرحية وقدم في السنوات الأولى حوالي 40 عملاً مسرحياً سافر بعدها القباني إلى مصر حاملاً معه عصر الازدهار وبداية المسرح العربي وكان معه مجموعه من الفنانين والفنانات السوريين ح نذكر منهم (جورج ميرزا وتوفيق شمس وموسى أبوالهيبة وراغب سمسمية خليل مرشاق ومحمد توفيق وريم سماط واسكندر فرح وغيرهم ) سافر ابوخليل القبانى بعدها إلى مدن سورية ومصر وامريكا وعاد إلى دمشق متابعا عروضه المسرحية إلى ان توفي عام 1903 ودفن في مقبرة الباب الصغير بدمشق، ومن أهم رواد المسرح اسكندر فرح والذي عمل مع ابوخليل القباني وكون بعد ذلك فرقته المسرحية الخاصة وكان المعلم الاول للكثير من رواد المسرح في سوريا ومصر ولد اسكندر فرح بدمشق عام 1851 وتوفى عام 1916 وقدم مسرحيات هامة في تاريخ المسرح العربي : (شهداء الغرام – صلاح الدين – مملكة اورشليم – مطامع النساء – حسن العواقب – اليتيمين – الولدان الشريدان – الطواف حول العالم وغيرها الكثير) على هذه الحال كان المسرح في سوريا امتداد حضاري متوارث عبر مختلف الثقافات التي مرت بسوريا و العالم العربي ليكون نتاجاً للحياة السورية الثرية بالإنسان بمكونه الأخلاقي والثقافي والديني والسياسي .. ما يدلل على امتداد الحياة السورية ثقافياً وفنياً بحيث تكتمل السلسلة ولا تفقد منها أية حلقة كما يحدث في ذاكرة الشعوب القريبة أو البعيدة.
صحفي سوري | موقع قلم رصاص