عامر العبود |
دخل من الباب وقد شعر بالخيبة، كان المقهى فارغاً تماماً إلا من العمال، فقد أعد نفسه لمجالسة المثقفين، حيث ارتدى حمالات السروال البنية، مع القميص الأزرق، والنظارات العريضة، ولم ينسى قبعة المثقفين، كما حمل معه حقيبة رسمية، ملأها أوراقاً بيضاء، وجريدةً تحت الإبط، قال له صديقه “المثقف” أن هذا المقهى يعج بالمثقفين والمفكرين، كلهم كتاب وصحفيون من الطراز الرفيع، لذلك فقط أتى إلى هذا المكان، لكنه وجد المكان فارغاً إلا من العمال!!
حاول أن يمتص الصدمة، فهو يفعل ذلك مراراً مذ اندثر معمل الإسمنت الوحيد في سورية، وفقد عمله، جلس على الطاولة في صدر المقهى، ليبقى متيقظاً لأي شخص قد يدخل فجأة من الباب، فتح الجريدة، وحاول أن يبحث عن أكثر المواضيع فرادة وغرابةً، فهو مذ فقد عمله يقرأ الجريدة كل يوم، ليصبح مثقفاً. طلب فنجان قهوة سادة ليدخل في الشخصية، ورمى دعابة سخيفة (أو بلا سكر) تلقفها النادل بابتسامة المشمئز، وكرر الابتسامة عندما أحضر القهوة.
مرت نصف ساعة ولم يدخل أحد إلى المقهى، تذكر كلام أبيه صباحاً: “السجون هي مقهى المثقفين…”، لكنه لم يكن يرغب أبداً أن يكون سجيناً، كان يبحث عن أي شعور استثنائي بالقيمة، سرح بأفكاره بعيداً “لو أن المعمل لم يصبح رماداً ما كنت لأجد وقتاً للقراءة، لكنني كنت أتناول الطعام بانتظام على الأقل….مقهى مثقفين!! لا أرى غير الذباب والعمال! أين أولئك الرجال الذين يسيل الشعر من أعينهم؟ أين ضباب السجائر؟ آه حتى هنا حظ عاثر”.
من الباب دخلت فتاة تشبه مونيكا بيلوتشي (ومونيكا بيلوتشي هي ممثلة تشعر أن الثياب تشكل عائقاً مهنياً أمام النجاح) لم تكن تبدو أنها مثقفة، لكنها جدية وحازمة في خطواتها، تمشي كأنها تعرف عدد الحجارة المستخدمة في بناء المكان، جلست بثقة كبيرة على الكرسي دون أن تنظر إليه حتى، ودون أن تطلب شيء؛ قدم لها النادل كأساً من الشاي.
نظر إليها من خلف جريدته “لا يطلب المثقفون الشاي!!”، تردد قليلاُ، ثم عقد العزم، واتجه إلى طاولتها، كانت قد أخرجت كتاباً سميكاً جداً، لم يرى مثله قط، قرأ اسمه (موبي ديك)، وقرأ اسم الكاتب بصعوبة هيرمان ملفل (وهيرمان ملفل رجل مولع بصيد الحيتان)، حاول أن يستحضر أي شيء عن هذا الكاتب، حديث لصديقه المثقف، أو مقالة ما، أو منشور لأحد أصدقاء الفيسبوك، لكنه عبثاً حاول، فانتبهت إليه وهو يحدق في الكتاب كإشارة استفهام، فقالت له بلطف:
- عفواً … أية مساعدة؟.
- في الحقيقة …. أنا لست من دمشق (كان يكذب) جئت من حلب، وكنت أريد أن أعرف أكثر عن الفعاليات الثقافية في المدينة، فنصحني أحد الأصدقاء أن آتي إلى هنا (ضحكة غبية مصطنعة) لكن كما ترين، لا يوجد إلا العمال والذباب… (مستدركاً) وأنتِ… (مستدركاً حماقته) وأنا …
نظرت إليه بابتسامة عذبة، فقد شعرت أنها تخاطب شخصاً طيباً على الأقل، قالت له:
- تفضل … (جلس) ما الذي تريد أن تعرفه؟.
- ندوات، محاضرات، مسرح، سينما، نقاشات، أمسيات (كأنه يحفظها عن ظهر قلب) حفلات، موسيقى … هكذا.
- جوجل ات!!.
- عفواً!.
- ابحث في جوجل، ألم تسمع بجوجل عندما كنتَ في حلب؟
- بلى… بلى … لكن كما تعلمين نحن لا نثق بالإنترنت.
- من أنتم؟!
- (تلعثم) نحن …. المثقفين!
- (ضحكة مكتومة) لا عليك … هناك عرض لمسرحية المغنية الصلعاء، يوجين يونيسكو، عند الساعة الخامسة، في مسرح الحمراء.
- ممتاز (بفرح غبي) … هذا خبر مفرح.
- غداَ.
- هل ستذهبين؟
- أنا لا أحب العبث.
- وأنا أيضاً… لكنني أظن أن المسرح يتصدى للعبث، إنه مرآة الثقافة، قرأت مقالاً في جريدة الثورة عن المسرح، يقولون أن المسرح والدراما في حرب ضروس، ما رأيك؟
كانت تنظر إليه بطرف عينها، وتستشعر جهله بالتدريج، فأخذت دقيقة كاملة حتى وجدت الإجابة المناسبة:
- هل سمعت يوماً عن المسرح العبثي، بيكيت، يونسكو؟! (وبيكيت هو رجل ايرلندي أغلب المثقفين يدعون أنهم قرأوه)
- طبعاً… لكنني لست ملماً بما يكفي… لا … لا أعرف شيء عنهما ولا عن عبثهما.
- لا مشكلة… اذهب إلى المسرحية وستتعرف عليهما.
حاولت أن تتجنب استمرار الحديث بأن فتحت كتابها، واستغرقت بالقراءة، بقي جالساً، ينظر إليها نظرة لا تحمل أي معنى، كل ما كان يشغل تفكيره، كيف تكون امرأة ومثقفة في آن؟!!، أين الرجال؟. مضت نصف ساعة، هي تقرأ، وهو يتمنى أن يدخل رجل إلى المقهى، ليتخلى عنها فوراً، لكن ذلك لم يحدث، قررت أخيراً أن تكسر هذه الحالة، أغلقت الكتاب وسألته:
- إذاً ما أخبار حلب؟.
- (نسي كذبته) أنا لا أتابع الأخبار، جوجل ات!.
- ألست قادماً من حلب؟!!.
- (مستدركاً) بلى … حلب جميلة… جميلة حلب
- حسناً … يجب أن أذهب إلى عملي
- وأنا أيضاً
وقفا، جمعت أغراضها، وتركت ثمن الشاي تحت الفنجان، كما انطلق سريعاً لأخذ أوراقه البيضاء، وترك ثمن القهوة تحت الفنجان، عندما كانت هي قد وصلت إلى الباب، فانطلق خلفهامسرعاً.
على باب المقهى، صافحها بحرارة:
- وداعاً يا آنسة.
- سررت بلقائكَ.
وانطلقا باتجاهين متعاكسين، فاستدارت بعد بضع خطوات وسألته:
- هل ستذهب غداً إلى المسرحية؟
- نعم… ربما نلتقي هناك.
- قلت لك لا أحب العبث.
تمتم بينه وبين نفسه “ولا أنا”، واختفت الفتاة تماماً، وقف حائراً، خلفه المقهى الفارغ من الرواد، وأمامه الشارع المكتظ بالسيارات والمارة، قرر ببساطة العودة إلى المنزل، لا مكان آخر، ركب سيارة الأجرة، كان السائق يستمع إلى علي الديك (وعلي الديك مطرب شعبي تنضح أغانيه بأفعال الأمر على غرار ادبح، ادبك، اضرب…إلخ) فطلب من السائق أن يرفع الصوت، ويأخذه إلى المسرح، فقال السائق مبتسماً ويده على مفتاح الصوت:
- والله عرفت أنكَ منهم
- من هم ؟
- المثقفون!
صحفي | خاص موقع قلم رصاص