ياسر اسكيف |
ليست المُفارقة في أن تستدعي (داعش) و(جبهة النصرة) وغيرهما من الفصائل (الجهادية) التكفيريّة (أُحداً) و(الخندق) و (صفّين) إلى الحاضر الراهن، لاستحالة استخدام الدبابات والصواريخ والعربات المُفخّخة في ذلك الزمن، انما في مقدرتها على إيجاد من توقفه على الطرف المُقابل ككافر وجبت محاربته وإخضاعه. وكأنما الزمن بالنسبة إلى هؤلاء لا يعدو كونه عدّا ً تنازليّا ً بانتظار القيامة، وأن كلّ الذي يحدث من تغيّر وتبدّل ليس إلا أعراضا ً ثانوية لا قيمة لها، أو أنها تجليّات للمشيئة الإلهيّة التي تخدم هذا المسعى. ذلك أنَّ هذه المشيئة، وعلى قاعدتي (الضرورات تبيح المحظورات) و (كيدهم في نحرهم) قد سوّغت لهؤلاء كلّ ما لا يحكمه منطق أو يطاله قانون. فعلى أساس القاعدة الأولى، ولأن الضرورات تخضع للتقدير الذاتي، بات كلّ شيء جائز شرعاً، وبات استخدام واستهلاك كلّ ما ينتجه الكافر مُبرّر بحكم الضرورة التي يقتضينها تحقق المشيئة الإلهية. فالكافر، حسب هذا العته المفهومي، مُجرّد خادم سخّره الله لخدمة عباده المؤمنين الصالحين. وعلى أساس القاعدة الثانية فإن استخدام الأسلحة، ووسائل الاتصال، وتقنيات الميديا بأحدث مُنتجاتها، في (أحد) و(الخندق) اللذين تمّ استحضارهما من عمق التاريخ، هو ردُّ الكيد إلى النحر وقتل الكافر بسلاحه.
والقاعدتان السابقتان ليستا إبداعا ً داعشيّا، بل مِتنان فقهيان يأخذ بهما كلّ مسلم، وبناء عليهما تكشّفت الكثير من المتون التي أظهرت بأن داعش وأخواتها تمثل ردّا ً وحيدا ً ونهائيّا ً على فكرة الإصلاح الديني، وبيَّنت بالملموس المُعاش استحالة أي اختراق في الكليّات الدينيّة السما-أرضية.
وصار من الممكن القول بأن داعش، وغيرها من الظواهر الشبيهة، قد باتت إشكالية مدنيّة، بقدر ما هي إشكالية عقائدية عسكرية. وباتت قراءتها ومقاربتها شديدة الإرباك والتعقيد. إذ أنها ليست ممارسة لثقافة طارئة، كما يحاول البعض أن يصوّرها، بقدر ما هي إحدى المساحات المُغيّبة من الثقافة الإسلاميّة التي تعود للظهور اليوم، باحثة لنفسها عن مكان بين النافذين. وإذا كان إقصاؤها وتغييبها، لمئات السنوات، كثقافة عبادة وعيش، بإرادةٍ براغماتية فرضها التحالف، إن لم نقل التواطؤ، بين السياسي والديني في اقتسام التسلّط والهيمنة، قد عوّمَا صورة الاعتدال، فإنهما لم يستطيعا الاستمرار أكثر من هذا في عملية الاقتسام التي مورست على الدين الإسلامي بين مُعتدل ومتطرّف، إذ بمجرّد الحديث عن الاعتدال يحضر التطرف كنصف الديّن المُغيّب. هذا الحضور الذي لا يمكن إلا وصفه بالفضيحة الثقافية، ليس للثقافة التي كسرت طوق تغييبها فحسب، بل لثقافة الموت والذرائعية والتزلّف التي تصف وتعرّف كل ثقافة دينيّة.
هذه الثقافة التي حضرت بقوّة، وبسرعة انتشار أفقيّة (عدديّة) وعموديّة (نوعية) يراها البعض مُفاجئة !! تفتح أكثر من مدخل لقراءتها، وكلها تحيل في النهاية إلى معنى واحد لا يخرج عن دائرة الموت والعدم. فمن الراية السوداء التي تخفق، على الأغلب، في التيه، ببدائية الأحرف التي كتب بها شعار (لا إله إلا الله …) وما لهذه البدائية من دلالات، مروراً باللباس الذي يُفترض انه ينتمي إلى زمن المسلمين الأوائل، وصولا إلى أشكال القتل الوحشي (الحرق – الذبح – الدهس بجنزير الدبابة – إطلاق النار على الضحايا المُقيّدين -…) وسبي النساء واغتصابهن، حيث تغيب كلّ قيمة إنسانية، وحتى بهيميّة، وليس أخيراً تحطيم الأوابد والآثار، وما له من دلالات يجب التوقف مطوّلا ً عندها، التي تمثّل في بقائها ديمومة الفعل والأثر الإنسانيين، أو الحياة الأبدية برمزيتها. والذي يُحطّم هنا ليس صنما ً، أو ما يُحيل إليه، كما تدّعي هذه الثقافة، وكما يُروّج لها الدعاة الوهّابيون. بل هو الأثر الذي يُذكّر بالحياة، حتى ولو كان من مفردات الموت (خير القبور الدواثر) هذا ما قاله النبي.
(لا إله إلا الله ….) كُتبت بأحرف تُعيد الكتابة إلى الحفر والنقش، أي إلى ما قبل صناعة الورق، وما قبل عصر الطباعة. هل هو الوفاء للسلف، والأمانة للأصول، أم أنه بعد رمزي يُقصد به الإيحاء بإيقاف الزمن، وربما إعادته مئات السنين إلى الوراء؟ هذه العدميّة التاريخيّة لا تنفصل أبداً عن مجموعة من العدميات التي تشكل مُرتكزات الثقافة الداعشيّة، والسلفية التكفيرية بشكل عام. فبالتوازي مع إغفال الزمن وتحييد الحركة، بكلّ ما تراكمه من تبدّلات وانتقالات، هناك عمل مدروس على إغفال هوية المكان وتجريده من كلّ إشارة تخدم أثر الزمن. فالكادر الذي يُميّز ما تسوّقه هذه الثقافة على الصعيد الإعلامي من صوَر، أو من فيديوهات، يبدو على الدوام أرضاً خلاء، أرض تخلو من كلّ ما يشير إلى الحياة. إذ ما من أثر لآهل، في عمليات القتل التي يتم تصويرها، أو في التدريبات العسكرية التي تتم، وكذلك في مسير أرتال السيّارات التي ترفرف فوقها تلك الراية السوداء. البيداء. نعم البيداء هي ما يمتد في كلّ مشهد. وكم من التطابق يحكم هذا الأمر: يبيدُ – إبادة – بيداء. مرّة أخرى نعود إلى العدم، في كلّ مفردة، وفي كل تفصيل. وإن كان من هوية يمكن أن تسم المكان هنا فهي بالتأكيد حِرفيّة عالية، وتقنية دقيقه، تظهران صورة المكان. هل الأمر هنا يتعلق بردّ الكيد التقني إلى النحر أيضا ً، أم هو سخرية من هذه التقنيّة التي تبدو وكأنها تخون نفسها؟ إنها ثقافة السبيّ مرة أخرى، ولكن بكيفيّة مُختلفة. إنه السبي الحضاري هذه المرّة، واستخدام المُنجز الحضاري الإنساني لأهداف همجيّة بهيميّة بدعوى تصويب التاريخ وتصحيح خطأ الإنسانية. وليس بعيدا ً عن هذا، بل جزء من المنظومة العدمية التي تحكم هذه الثقافة، يأتي تحطيم الأوابد الأثرية، والعناصر الرمزية التاريخية، التي يبدو أن غايتها أبعد من مسألة الشُرك بالله، حيث يدرك الجميع بأن لا علاقة مشاعريّة، أو طقوسية، لهذه التماثيل، بأيّة وثنيةٍ أو شرك. وهي بنظر الجميع مُجرّد علاماتٍ لا أكثر تلقي الضوء على السوية الحضارية والمعرفية والثقافية التي كانت عليها الشعوب التي أنتجتها. وهذا يدفعنا للتفكير بدوافع الحقد الأعمى على المكوّنات العصيّة على التزامن، أو المُحايثة، القسريين، ويجيز لنا القفز فوق مشاعر الحرص المُفتعل على عدم الشرك بالله، وفوق حاجز (المؤامرة) إلى الثقافي، الذي هو أعم وأشمل من الديني المحدود. وربّما كان البياض، الذي تشظى وتناثر تحت وقع ضربات المطارق، أو الذي تطاير غباراً، فيما التماثيل، والقطع الأثرية تتهاوى، بينما تتنقل شقيقاتها الصغيرات من مزاد علني إلى آخر في أكثر من عاصمة أوربيّة، يؤسس لمدخل يقودنا إلى قراءة غير بريئة ٍ لفعل التحطيم والإزالة الذي مورس ضدّ كربونات كالسيوم محايدة إلا في دلالات تشكيلها للفراغ. البياض فاصلة، أو برهة بين كونين، أو وجودين. وبهتكه، أو بإلغائه، يفوّتُ الفاعلون الفُرصة َ على اتصال زمنين انقطعا، أو استمرار زمن ٍ مُختلفٍ من مساحة بياض ٍ انكشفت. أو أنهم يعيدون زمناً استمرًّ إلى مساحة البياض الموغل في القدم، بحيث يبدو وكأنه لم يكن زمن حدوث، أو مؤكّدَ وجود. وبالتالي فالقراءة غير البريئة هنا تخصُّ علاقة الهوية وطمسها، أو لنقل البعض من ملامح الهوية، بالممارسات التي دأبت عليها (داعش) ضد البشر والحجر. تلك الهوية التي ترتبط بجدل وجود مع الثقافة. والتي أظهرت الأحداث بأنها ليست بمنأى عن الغايات البعيدة، بل والقريبة أيضاً، في محاولة لإحلال الديني، وبشكل كامل، مكان القومي، أو المحلي، لما في إحلال كهذا من محو لكل خصوصية، ولما يقدمه من خدمةٍ لفكرة الدولة الدينية. وهنا نعود إلى الإشكالية المدنيّة التي تشكلها (داعش) من هذه الناحية، ذلك أن المُحيط كله، بالنسبة لها، هو دار حرب. ودولة الله، التي تشمل الأرض كلها، يجب أن تكون من لون واحد.
هل(داعش) دولة خلافة حقاً، أم أنها فضيحة ثقافية وتاريخيّة، ساهم في حدوثها كلّ من يؤذيه ترسّخ مفهوم الدولة الوطنيّة، فما بالك بالوطنيّة الديموقراطية؟ وربّما كان أنصع ما في هذه الفضيحة أن ثقافة (الاعتدال) المُدّعى وجدت نفسها مُضطرّة على الاعتراف بما أنكرته لقرن ٍ ويزيد عن تاريخيّة النص الذي قامت عليه. حيث أقصت من متنها، طيلة ذلك الزمن، كلّ ما يعيق ديناميكيّتها وانسجامها مع حاضرها العام، مؤكدةً، على عكس ما ترغب وتدّعي، بأن الحسّ التاريخي هو العنصر البنيوي القادر على تحقيق التكيّف والمناورة، وبالتالي البقاء والاستمرار. حتى ليبدو الصراع بين (داعش) والآخرين وكأنه تظهير لصورة الصراع بين تاريخيّة النص الديني المؤسّس للثقافة الإسلاميّة، ولا تاريخيّة هذا النص. رغم أن ثقافة الاعتدال تنكر على هذا النص تاريخيته فقهياً، بينما تقرُّ بها وتمارسها كسلوك براغماتي يضمن لها الاستمرار في الهيمنة والسيطرة.
كاتب وشاعر سوري | خاص موقع قلم رصاص