جلست على الرخام قرب الصيدلية لأدخن سيجارتي، كأس الشاي الأخضر بالليمون في يدي، نظرت إلى النارنجة الصغيرة المزروعة على الرصيف، كبرت النارنجات قليلاً، أصبحت بحجم طابات البينغ بونغ وما تزال خضراء. بين السيارات يسير قط أصفر كبير، يتبعه قط آخر لم أعد أذكر لونه ولكنه أصغر حجماً، وثالث صغير، أبيض ورمادي منتوف الفراء وكأنه خرج من معركة صغيرة للتو. حاولت تتبّع مسيرة سيرهم لكنني فقدت أثرهم خلف السيارات المصطفّة قرب الرصيف. بدوا كثلاثي غريب لا تربط بينه صلة قربى.
سألت أفين التي خرجت من الصيدلية لتجلس قربي على الرخام البارد:
– ما عاد فتح عمو أبو شاهر؟
– لأ، بس مرّ لعندي من فترة..
ما تزال منشرة أبو شاهر وأبو الخير مغلقة، فبعد أن هُجِّر أبو الخير من حرستا ثم انتقل ليسكن مع عائلة ابنه في ضاحية قدسيا، قرر أخيراً السفر مع عائلته إلى الأردن. ولم يعد أبو شاهر يذهب إلى المنشرة التي تذكره على الدوام بأبي الخير، شريكه الذي لم يختلف معه يوماً لأربعين عاماً.
على الرصيف تستلقي زهور الياسمين مقلوبة بفوضى سببتها نسمة مشاغبة باردة. نظرت إلى الشجرة التي تعرّش على سياج أحد البيوت، كيف لم أنتبه من قبل لرائحته وأنه قد أزهر؟ أيعقل أنني نسيت؟
خشخشة أوراق الشجر، وتساقطها كالمطر مع كل نسمة هواء باردة ذكّرتني أننا في أيلول، وبداية الخريف، خريف حقيقي في سوريا لا يشعر به إلا من يسكن وسط العاصمة حيث تكثر الأشجار.
أوراق صفراء صغيرة محشورة بين المسّاحات وبلّور السيارات الأمامي، متجمعة في كتل صغيرة تتحرك مع أدنى نسمة خفيفة.
معظم السيارات في سورية باتت مشوّهة في الفترة الأخيرة، فما عاد أصحابها يهتمون بالخدوش الصغيرة على جوانبها وحتى (بالإنطعاجات) العميقة في هياكلها اللينة، فالكثير منها تسير حتى دون بللور خلفي، يستعاض عنه بأكياس نايلون ملصقة بلاصق شفاف. وكلما رأيت سيارة كهذه أتذكر جملة سمعتها من أحد سائقي السرافيس في نهاية العام الماضي بعد (تحرير المخيم) حين علّق على أحد السرافيس التي تعمل على خط اليرموك- كراجات:
– الشباب قلبوا علصيفي..
ويقصد بذلك أن معظم السرافيس التي تعمل على خط المخيم باتت من دون زجاج خلفي في فترة الشتاء.
سرت باتجاه ساحة السبع بحرات، لم تعد آثار التفجير ظاهرة على مبنى رئاسة مجلس الوزراء سابقاً، ولا يُذكّر به سوى بيت واحد في الجهة اليمنى من الشارع ما يزال مُخلّع النوافذ، إن لم تتقصد الانتباه إليه فقد تمر دون أن تلاحظه.
كم نحن شعب بارع في الترميم– فكّرت- نرمم منازلنا سريعاً بعد التفجيرات بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة، نرمم أرصفة شوارعنا بعد سقوط قذائف الهاون والصواريخ حتى لا تكاد نميز أحجار الرصيف القديمة عن الجديدة، حتى أرواحنا نرممها بعد كل خسارة لقريب أو صديق أو حبيب. نحن شعب سوري بامتياز، بكل حقاراته، انتهازيته، وساخاته ونُبله النادر، وطيبته وبساطته.
وصلت إلى شارع بغداد وولجت الحارات الضيقة التي تقود القدمين عفوياً باتجاه ساروجا، أتطلع يميناً ويساراً كالعادة في محاولة لالتقاط دقائق الأمكنة وتفاصيلها، تسحرني شجيرات “المجنونة” المتعرشة على الجدران التي ما تزال تحتفظ بقشرتها الخارجية من اللِبن. كانت إحداها هجينة جميلة بأزهار (فوشية) وبيضاء، الغصن نفسه يحمل وروداً بلونين. ولم لا؟ لم لا نستطيع التعايش كهاتين الوردتين مختلفتيّ اللون على الغصن نفسه، أهذا صعب إلى تلك الدرجة المستحيلة؟ حتى النباتات تستطيع التعايش بألفة بينما يجد السوريون الأغبياء صعوبة في ذلك.
أتذكر الفيجة القديمة في منتصف السوق قرب القهاوي الطرقية المستحدثة، يوماً ما كنت أشرب منها كلما مررت من هذا المكان، أما الآن فقد تحولت إلى مجرد هيكل معدني ميت صُبَّ فيه الإسمنت. يذكرها أبي بمضخة كان يحرك ساعدها ليتدفق الماء، أما أنا فأذكرها بحنفية عادية، إلى أن قرر أحدهم أن لا ضرورة لوجودها ولم يكلّف خاطره حين قرر صب الاسمنت داخلها أن يفكر بالحنين الذي تركته في ذاكرة كل من شرب منها.
قطعت طريق شارع الثورة إلى الجهة المقابلة، صعدت بضع درجات إلى الشارع الموازي لسوق الخضرة والحرامية، على يساري حمام قديم لم أشغل نفسي يوماً بتذكر اسمه وبيت مرمم تابع لدائرة الآثار والمتاحف دخلته يوماً على سبيل الاستطلاع وكان بابه حينها مفتوحاً للزوار، سحرت بفضائه الواسع وباحاته الكثيرة التي تفضي إلى باحات داخلية أخرى، كعلبة هدية تحوي داخلها علبة هدية أخرى وهكذا.. إلى أن نصل إلى القلب.
على يميني حرفيون يصنعون خزانات مياه معدنية متعددة الأحجام والأشكال، بعضها يشبه تلك التي شاهدتها في التلفزيون ووحدات الهندسة تفكك المتفجرات التي بداخلها، منظر هذه الخزانات يذكرني بالمواد القابلة للانفجار كلما مررت من هنا، خاصة الإسطوانية منها.
عجوز على دراجة هوائية محمّلة بأكياس الخضار يمر قربي، بصعوبة يضغط على الدوّاسات بقدميه في الشحاط القديم.
الفرن مزدحم لأقصاه، كوة للنساء وأخرى للرجال والثالثة للعسكريين. خطر لي الوقوف عند كوة العسكريين لكنني غيرت رأيي، أمزح، ما كنت لأقف على الفرن أبداً خاصة عند هذه الكوة، فكرت بردات فعل الناس على سلوكي هذا، سيظنونني مجنونة بكل تأكيد لو فعلتُها.
قطعت شارع الملك فيصل، يوماً ما كان هناك مطعم صغير يبيع لحم الجمل المشوي، إلى اليسار من الدخلة الصغيرة التي تقود باتجاه باب الفراديس.
شممت رائحة قهوة ممزوجة برائحة برودة الخريف وعطر خفيف من دكان يبيع العطور المُركّبة، خليط ساحر التقطته ذاكرتي الشمّية ونوت الاحتفاظ به إلى أن يزول العمر.
رجلان يلعبان الطاولة على الرصيف قرب دكان يبيع سجاجيد يدوية باهتة الألوان، مغبرّة لم تعد تلفت فضول أحد، وظلي الطويل يسير أمامي طويلاً طويلاً… ذكرني بلقطة البداية في فلم الكرتون (صاحب الظل الطويل)، راقبته وأنا أقدّم ساقاً على أخرى، أطبع خطواتي على أحجار الطريق، شعرت أنني أصبحت نحيلة جداً، طويلة جداً، غريبة جداً.
على امتداد السور الخارجي بين باب توما وباب شرقي لاجئون يلتجئون بالحديقة، متكومون في مجموعات، مسترخون على العشب وكأنهم في سيران إلى الربوة (أيام زمان). بضع فرشات إسفنجية وكرتونة تطل منها طناجر متعددة الأحجام، فتاة تنفخ على النار المتقدة تحت طنجرة ألمنيوم يتصاعد منها البخار، لم أستطع تمييز رائحة طعامهمولم أعرف محتويات الطنجرة.
نسمة رطبة، قدماي تستشعران البرد والقمر المستدير كرغيف الخبز المشروح بفقاعاته يطلّ خجلاً في سماء ما تزال زرقاء. أقترب من قوس الباب الشرقي، وأقطع الشارع إلى الجهة الأخرى.
19 أيلول 2013
موقع قلم رصاص الثقافي