الرئيسية » مبراة » الميت تطول رجلاه!

الميت تطول رجلاه!

“الميت تطول رجلاه” صاحب هذا القول مجهول الهوية بالنسبة لنا، إلا أن في قوله الذي توارثناه الكثير من الحكمة، مما يدل أنه ليس شرقياً وحسب إنما قد جُبل بتراب وماء الشرق، وعرفه كما لم يعرفه سواه، واستطاع أن يلخص نفاق مجتمع كامل بشقيه الشعبي والرسمي بتلك الكلمات الثلاث، إن واقع الحال في مجتمعنا الشرقي يفرض وجود هذا المثل في ذاكرته وموروثه ووعيه الجمعي، بل أنه يكاد يكون ضرورة مُلحة في بعض المواقف مثل خبر منح عالم الآثار السوري خالد الأسعد وسام الاستحقاق “بعد الوفاة”، أي بعد أن فصل تنظيم داعش رأسه عن جسده وصلبه على أعمدة تدمر التي قضى عمره منذ الولادة وحتى لحظة وفاته وهو يحرسها.

إن منح الباحث خالد الأسعد وسام الاستحقاق يعني أنه يستحقه وأن الحكومة السورية تعرف جيداً أن هذا العالم التدمري يحتاج إلى تكريم على مستوى الدولة يُضاهي ما قدمه لبلده، ويليق بمكانته العلمية العالمية، لكنها رغم ذلك لم تكرمه حياً، بل كرمته ميتاً، لكن لماذا بعد الوفاة؟ وهل يحتاج العالم والمبدع أن يُفصل رأسه عن جسده ويُصلب حتى يستحق التكريم من بلده؟ ويُقام له عُرسٌ يستعرض المسؤولون فصاحتهم وخطابتهم فيه، ويبدأون بكيل المديح وذرف دموع التماسيح على فقيد لم يعرفوه يوماً حين كان حياً ينبش ذاكرة التاريخ ويستنبط منه علماً قل نظيره، بل عرفوه من وسائل إعلام أجنبية وهو مذبوح مصلوب على تاريخ البشرية.

من يدري ربما لو مات الأسعد ميتة عادية ما كان حصل أولاده المفجوعين بفقده على وسام الاستحقاق بينما لم يستطيعوا الحصول على جثته، فهل منحتهم الحكومة وسام التكريم بدل جثة أبيهم المفقودة؟ أم خجلت الحكومة السورية من تكريم إيطاليا للشهيد الأسعد لذا كرمته ووضعت له تمثالاً في ساحة الأمويين؟

لا ندري شيئاً عن أجوبة كل تلك الأسئلة ولن نقع في فخ التخمين وسوء الظن، لكن يبدو جلياً أن الوسام ناله فعلا الذبح والصلب وليس العالم خالد الأسعد، فما كان يحصل عليه أمير قطر السابق في تدمر السورية أيام شهر العسل السوري القطري كان يستحقه أكثر عالم الآثار الذي عاش من أجل تدمر ومات من أجلها، إلا أن الأسعد كان حياً في تلك الفترة وليس من حاجة لتكريمه في حياته فقد كرمته فرنسا وبولونيا والجمهورية التونسية بأوسمة!

إذا سألنا على المستوى الشعبي، ماذا كنا نعرف عن العالم خالد الأسعد؟ أو لو شارك أحدنا في مسابقة ثقافية وسُئل عن عالم آثار سوري يتحدث اللغة التدمرية، واكتشف أهم آثار تدمر التاريخية، ونشأ بين أعمدتها وأقواسها هل سيعرف الجواب؟ وكم من السوريين يعرفون خالد الأسعد قبل إعدامه على يد تنظيم داعش؟

حتماً النتيجة ستكون مخزية جداً، إذاً كما هو التكريم لفعل الذبح فمعرفتنا الناقصة وقلة إلمامنا وفشل إعلامنا كلها لم تكتمل إلا بفعل الذبح، لنخرج إلى العالم ونحن ننعي الأسعد ونذكر مناقبه ونجهش في البكاء، ولاوعينا الجمعي يراقبنا ساخراً من خيبتنا ولسان حاله يقول: “الميت تطول رجلاه”.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …