الرئيسية » إبــداع » الهوب هوب!

الهوب هوب!

محمد حاج حسين  |  

الوصول الأول في الحياة، لا يعني لأحد سوى الأهل، وبعض النسوة اللواتي يردن تذكر هذا الحدث، لا مولوداً استثنائياً يصل هذه الأيام، ولا انتظار لشيء مدهش حتى، الأمور كلها تتشابه.
العمر مجرد لعبة ذاكرة، الكلمة التي حفظتها أول الأمر لم تكن تقبل سوى معنى واحد، الكلمة التي يهمسها الأباء في أذنك، تتغير مع مرور الزمن، كذلك كلمة “حب”، “حزن”، كل ما يمكن وضعه بين قوسين، يتغير كما يتغير كل شيء. 
أنت تتغير لأنك كتلة من الكلمات لا تقبل الثبات، تكون طفلاً، ثم تتحول مع العمر لمعانٍ أخرى، ويبقى الطفل في داخلك يحن لكل شيء قديم، حتى اسمه الأول. 
قد لا تتغير وتبقى طفلاً، يملؤك الحزن والحب والمفردات التي توضع بين قوسين ومعترضتين، لكنك لا تستطيع تحريرها، شيء ما يقتل المفردات التي تعنيك، شيء ما أكبر من أن تبقى طفلاً أو تصبح كبيراً، تماماً كما تصبح الكلمات خردوات تصنع منها ما يناسب احتياجك أو ثوباً تصنعه بمقاساتك وما يناسبك لتقنع نفسك أن الطفل رحل ولن يعود.
لولا صوت “ياس خضر” الذي رافقه في سفره هذا، لكان ارتكب جريمة بحق الجميع.
كان يفكر في المسافات التي يقطعها “الهوب هوب”، وكيف يمكن الوصول في الوقت المحدد، الصوت جعل من التفكير مستحيلاً، الرضيع الذي بدأ بالبكاء والأم التي لم تتوقف عن شتم حليبها ومتلقيه، المقعد الخلفي كان فيه اثنان يتحاوران عن الدين وما يصح ولا يصح، ولا شيء صحيح، حتى الطريق الفرعي المؤدي الى المدينة أصبح كذبة.
لم يتوقف أي شيء، الطفل لم ينم، لم يصمت، الأم لديها من الشتائم ما يكفي لايقاف الرضاعة عن كل أولاد الأرض، الأديان بشكل عام، حديث يزعجه، الاثنان اللذان لم ينتبها للطريق واهتما بأمور لا قيمة لها في الحياة، كانا أقرب لعلبتي ضجيج يشوشان على الأغنية. 
اللعنة، صورتها ارتسمت في مخيلته حين بدأت أنّات “ياس خضر”، الموال يعني له كل شيء، يعني بأنها تسكن في تفاصيل كل هذه الأمور، كل الذين خسرهم في حروب متفرقة، ذاكرته عن كل ما قرأ وكل ما رأى، كم تمنى في قرارة نفسه أن يبتلعهم انفجار ما، أو حادث سير وينتهي كل هذا الضجيج، الأغنية انتهت والأخرى التي تليها، العرق تصبب منه كمحموم في ليالي كانون اللعينة.
المدينة تبدو أقرب، صمت كل شيء فجأة، حتى المسجل، أحس بارتباكٍ وبسعادة بدأت تتسلل، ثمة أمر قد حدث، لم تتوقف الهوب هوب إلا أنه يحس بأن كل شيء توقف، حين وصلوا الى المحطة، نزل الجميع ولم يروه بعدها، قال أحدهم بأنه قفز من النافذة ودخل في الغابة، والبعض جزم بأنه لم يكن معهم أصلاً، الاثنان لم يتوقفا عن النقاش ولم يرونه، الطفل وأمه لم يكترثا لأي سؤال، كان اسمه بين المسافرين إلا أنه لم يصل.
بعد خمس سنوات على هذه القصة، رأيته في منامي وقد أصبح قصباً، كلما هبت الريح خرجت منه كل أنات الحياة التي نعرفها.
……
الهوب هوب: باص النقل بين المدن السورية.

خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

سرابٌ بطعم الوطن

دَعُوهَا ليّسَ لَهَا مُسْتَقَرٌّ في ظلال ِ الياسيمن سرابُهُم في كفِّه وطنٌ التيه: هل من …