عامر العبود |
كان صوت زوجها عالياً جداً، وعميقاً، نطق بجملة طويلة بدت كانفجار نووي، “أسرعي، اجمعي الأغراض المهمة، يجب أن نهرب”. وذهب مسرعاً ليبحث عن وسيلة نقل تقلهما، نظرت حولها، كان البيت كله مهماً، ما الذي قد يكون أهم من غيره؟!، لم تستطع أن تعامل أشيائها بقلة وفاء، لكن صوت زوجها كان يتردد في أذنها كل ثانيتين، “أسرعي…”.
دخلت إلى غرفة النوم، فتحت الخزانة، وأخرجت الأوراق الرسمية، إضافة إلى القليل من النقود التي وفرتها لتشتري فرشاة شعر تعمل على الكهرباء، ووجدت أن ألبوم الصور شيء مهم يجب الاحتفاظ به، كانت تحمل كيس كبير ترمي فيه كل ما بدى مهماً، أخيراً بعد أن جمعت ما يمكن حمله من أغراض، أخذت نفساً عميقاً ونظرت حولها، لأول مرة في حياتها تتمنى ألا يعود زوجها، أن تدهسه سيارة تحمل النازحين إلى مكانٍ أقل موتاً، فيأخذه السائق إلى خارج البلدة ليعالجه، أو أن يغلقوا الطرق وراءه، فلا يتمكن من العودة، أن تحصل أي حادثة لا يموت فيها، ولا يعود.
بدأت تستحضر كل القصص التي سمعتها من أصحاب التجربة، أولئك الذين غادروا بيوتهم ولم تغادرهم، قالت لها جارة سلفتها أن القوات الرديفة دخلت إلى المنزل بعد خروجهم منه، وأحرقته، لأنهم وجدوا فيه الكثير من الكتب الدينية، كما وجدوا صوراً تجمع والدها “بمشايخ حماة” قالت: “إنهم أخذوا كل الأغراض القابلة للبيع، ثم أحرقوا المنزل!” لم تكن مقتنعة بتلك القصة التي روتها جارة سلفتها، لكن الحذر واجب، بدأت تجمع الكتب التي ورثتها عن جدها ولم تقرأ منها كلمة واحدة في حياتها، كانت كلها تفاسير متعددة للقرآن، وكتب السيرة النبوية، إضافة إلى مؤلفات ابن القيم وابن تيمية والإمام النووي، جمعت كل الكتب ورمتها باتجاه الخرابة التي يطل عليها البيت: “إذا وجدوها هناك، لن يعرفوا من أين أتت”.
تذكرت أيضاً حكاية ابنة عمها، قالت: “إن داعش أعدم زوجها بعدما اتهموه بالشيوعية” لقد وجدوا معه بطاقة الحزب القومي، لكنهم اعتقدوا أن تلك النجمة اللولبية الحمراء لا بد أنها نجمة الشيوعية، لم يحاول الرجل أن يدافع عن نفسه، فالانتماء إلى الحزب القومي تهمة تستوجب الإعدام أيضاً، تخيلت للحظة زوجها مقطوع الرأس، فركضت إلى خزانته وأخرجت كل الشهادات التي حصل عليها من الجهات الرسمية، إضافة لكل أوراقه المتعلقة بالحزب، وكل الكتيبات التي كان يحصل عليها مجاناً ولم يقرأ أي منها، جمعتها في البانيو، وأشعلت النار.
شعرت أنها تقوم بواجب مقدس تجاه منزلها بأن تحميه من كل أسباب الدمار، لم تترك حجة ليدمر أحدهم منزلها، أفرغته من كل الكتب، وكل الشهادات، وكل الأوراق والصور، حتى المطبخ لم تترك فيه ما يأكل، رمت كل الطعام إلى الخرابة، كي لا تترك مجال لأحد أن يستقر في منزلها، جمعت كل ثيابها الداخلية وأحرقتها مع الكتيبات الحزبية، “لا بد أن الثياب الداخلية تستثير داعش”، فرشت أرض المطبخ بالصابون السائل، وأفرغت علبة مسامير في غرفة النوم، رشت ملحاً على عتبات الأبواب، قلبت الأغراض الثابتة رأساً على عقب؛ ليظهر البيت كأنه قد تعرض للتفتيش، أخرجت اسطوانة الغاز إلى الشرفة وفتحتها، كي لا تساعد في الجريمة…
بعد أن انتهت من حملة التطهير الواسعة التي قامت بها، جلست في منتصف الصالة، إلى جانب الكيس الكبير الذي ستأخذه معها، شعرت أنها أدت واجبها، لكن تأخر زوجها فتح أمامها الفرصة لتخيل الرجال الذين يعيثون في بيتها فساداً، يكسرون الزجاج ويركلون كل ما يقع في مرمى أقدامهم، يشعلون النار في كل الزوايا، يحرقون كل ذكرياتها، يمزقون الستائر والشراشف، يبول أحدهم في زاوية غرفة النوم، ويستحم آخر في المطبخ، وجريح مرمي تحت المكتبة، يبحثون له عن مطهر أو معقم، لكنهم لن يجدوا، رأتهم يفكون المكيف، والغسالة، يخلعون الأبواب والنوافذ، يختارون ثياباً لزوجاتهم من خزانتها، فيما أغرق أحدهم البيت كله بالوقود.
لم تكن تتخيل حدوث ذلك في أكثر كوابيسها سوء، بدأت تبكي بحرقة، وتجهش، وتضرب على رأسها، لكنها أخيراً قررت أن تترك رسالة للذين سيدخلون المنزل، نهضت مسرعة إلى الحمام، كان البانيو ما يزال مشتعلاً، سكبت الكثير من الماء لتطفئ النار، وكادت تختنق من الدخان، استطاعت أخيراً أن تستخرج ورقة نصف محترقة من أحد الدفاتر، ولحسن حظها أنها تركت قلماً في حقيبتها، فعادت إلى الصالة، أخرجت القلم من الحقيبة، وكتب بخط كبير على الورقة:
“أرجوكم … لا تحرقوا منزلنا”
لم تكد تنهي تلك الكلمات حتى سمعت صوت زوجها يصرخ من تحت، “أسرعي…”، تركت الرسالة على الطاولة ووضعت على طرفها علبة المحارم كي لا تطير، حملت الكيس الكبير وحقيبة اليد، ودَّعت بعينيها كل سنتميتر من المنزل، خرجت وأقفلت الباب وراءها، نزلت فوجدت زوجها ينتظرها أمام سيارة بيك آب، ساعدها على الصعود في الصندوق الخلفي للسيارة، وصعد إلى جانبها، بدأت السيارة تبتعد عن البناية، كانت عيونها معلقة بتلك الكتلة الاسمنتية الكبيرة، التي بدأت تصغر وتصغر، وصدر صوت انفجار كبير ، فلم يعد من الممكن رؤية البناية بعد أن غطى الغبار والدخان كل الحارة، قالت لنفسها “ليتهم يقرأون الرسالة”، لكن البناية كلها كانت قد سقطت مغشياً عليها.
كاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص