عامر العبّود |
أشعل الباحث والأديب المصري يوسف زيدان سيجارته في طنجة، لكنه أشعل معها نقاشاً محموماً في الأوساط الثقافية العربية، وأصبح الشغل الشاغل لنصف مثقفي الأمة مراقبة تداعيات لفافة التبغ على المشهد الثقافي العربي، وبين مدافع ومهاجم، استطاع البعض تشويه صورة الرجل دون أن يتكبدوا عناء متابعة الندوة المسجلة بالصوت والصورة، والموجودة على يوتيوب، بل اكتفوا بمتابعة مقطع مدته أربعين ثانية لحظة إشعال السيجارة! ليصبح مهرجان ثويزا والندوة التي أقيمت في الرابع عشر من الشهر الجاري تحت عنوان “الحاجة إلى التنوير” ولكن كانت كلها مختزلة بتلك الثواني.
قد لا يتفق البعض مع طريقة زيدان الساخرة بطرح الأفكار، وربما تحقيره لبعض المفاهيم لصالح إعلاء مفاهيم أخرى، وقد لا يرضى البعض أن يشعل زيدان سيجارته مع أننا نرضى أن يشعل غيره أجساد أطفالنا!، كما أن زيدان أكد أن التدخين ليس ممنوعاً في القاعة!، لكن هل يحق لنا التبخيس من قيمة الرجل الثقافية؟ أو هل يحق لنا تجاهل كل الأفكار التي ذكرها في الندوة على أهميتها، والتركيز على نكتة أو اثنتين؟! لقد اتبع مدير الجلسة الشاعر والإعلامي المغربي ياسين عدنان “أسلوباً كارثياً” في رده على “زيدان” عن طريق صفحته الشخصية في فيسبوك، حيث أراد إظهار أحد أقطاب الفكر العربي باعتباره “أراجوز” أمضى السهرة يرمي النكات ويستثير عواطف الجمهور، وأكد أن زيدان لم يأتي بفكرة مفيدة واحدة: الرجل عموما لم يأتِ من أجل النقاش، بل من أجل تشغيل طاحونة الكلام. ومَن أنصتَ إلى يوسف زيدان بإمعان في طنجة، سيلاحظ أنْ لا خيط ينظمُ حديث الرجل: كلامٌ مرسل على عواهنه بلا خطام ولا زمام. استطرادات سائبة لا تنتظم في منهاج ولا تعبأ بحجاج. استظهار محفوظات خارج كل سياق على طريقة “فاصِل ونُواصِل” “كان من نصيبنا فاصل جميل لحسن الحظ وهو قصيدة السهروردي البديعة: أبدًا تحنُّ إليكم الأرواح. كان يوسف زيدان معنيا بإغواء القاعة، ولعله نجح. لكنه أفشل حوارنا مع الأسف”.
كما لم يكن رد زيدان خارج السياق، حيث استخف بمدير الجلسة ووصفه بالفاشل المغمور: “ومن لطائف ما جري في طنجة، أنني عقدت ثلاث ندوات في ثلاثة أيام متتالية، وكلها شهدت حضوراً حاشداً غير مسبوق، مما أثار غيرة بعض الفاشلين هناك.. وكانت الندوات تقام في فندق، و تستمر لساعاتٍ طوال، فكنت أدخّن كعادتي بعد ساعة أو أكثر، فلما كانت الندوة الثالثة التي يديرها شاب مغمور قيل لي أنه “مذيع” راح يصخب في الميكروفون صارخاً بهستيرية إن التدخين ممنوع! مع أننا في فندق سياحي ليس فيه إشارة واحدة تحظر التدخين! كان ينتظر مما فعله أن أغضب، لكنني استوعبت الحال وقابلته بسخرية خفيفة . . ومرّ الأمر “.
أما لفافة التبغ فقد خرج زيدان ودخنها خارج القاعة وعاد، أي أنه لم ينسحب من المؤتمر!، على الرغم من الطريقة المستفزة التي اتبعها العدنان، وصفق الحضور لدى عودته؛ فقد ظنوا أنه انسحب حقاً، كما عاد زيدان ليبدد دخانه بطريقة مبطنة “الجماعة جايبين منفضة يبقى بيشجعوني أعمل ايه… عموماً هي سحابة صيف”، كما أن زيدان اعتذر أيضاً بطريقة مبطنة عن أي إساءة استشعرها المشاركون في هجومه على بعض أفكارهم، وبرر كلامه عن كانط أنه “بيهبل” بالتأكيد على وجود سياق مختلف بالنسبة للعرب “كانط جزء من مكوناتي، لكن الأقرب إليَّ ابن سينا”
لسنا هنا في صدد الدفاع عن الدكتور يوسف زيدان، فللرجل لسان سليط، وقلم حاد، دافع فيه عن نفسه وأفكاره بعشرات المؤلفات، إنما يجب أن ننصف الأفكار التي قدمها، وقدمها الباقون!، كما يجب أن يتم استخراجها من سياق لفافة التبغ التي أشعلها، فأصل الهجوم على زيدان أنه لم يستخدم اللغة الخشبية التي يجب أن يستخدمها كل مثقف، وأنه قد يكون استطاع إيصال فكرة أو اثنتين إلى العامة ممن يتابعونه، دون اللجوء للمزيد من الطلاسم التي لا يفهمها إلا القلة، كما كان خطابه الذي يشد الجمهور أسلوباً غير مرغوب!، وتبقى الطريقة المثالية البديهية لتتبع حقيقة الأمر هي مشاهدة الندوة كاملة، دون اللجوء لرأي فلان أو علان!.
لكن سؤالاً كبيراً تفرزه أزمة لفافة التبغ هذه، هل بلغت الثقافة العربية محلاً صارت معه أوهى من أن تتصدى لدخان سيجارة؟ هل وصلنا حقاً إلى تداول الأخبار الثقافية كما نتداول أخبار الفنانات وطلاقهن وحملهن وإجهاضهن؟ وهل من المعقول أن يتنكر المثقفون لرجل مثل يوسف زيدان فينزعوا عنه دوره التنويري بسبب خلاف أقل ما يقال عنه أنه تافه؟ أما الأدهى أن المصريين دافعوا عن يوسف، والمغاربة دافعوا عن العدنان، والمشارقة انقسموا كل حسب علاقاته، فمن يدافع عن الثقافة والتنوير؟!
كاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص