الرئيسية » رصاص ميت » على حافة العزلة يشحذ الطغاة خناجرهم!

على حافة العزلة يشحذ الطغاة خناجرهم!

 محمد جاسم الحميدي  |  

أسنّ السلطان وأصبح عجوزاً كبّة ، وظل وحيداً دون نسل كبيضة الرخ، كبغل عقيم، بالرغم من عشرات النسوة والجواري والحظيّات اللواتي ركبهن كالبهائم، وركبنه كالخازوق، من ظهرت عليها علامات الحمل قُتلت قبل أن تضع حملها، ومن تسترت على نفسها حتى أنجبت كُُتمت صرختها، وخُنقت صرخة وليدها الأولى، فالسـلطان يعرف أنه لا ينجب، ولا يهمه من أين تبضّعت جواريه أحمالهن.

أبلغه أطباؤه وحكماؤه وعرا فوه رغبة السماء الغامضة، وحكمها الذي لا مراجعة فيه، في ألاّ يكون له نسل من صلبه، يرهقه طغياناً وكفراً، أو يُسَبُّ به! أو يمنعه من مشابهته للرب في وحدانيته!

ولما كان حريصاً على ألاَ يترك عرشه خالياً كبيت العانس، فقد أعلن عن مسابقة تتلخص بأنه سيتنازل عن عرشه لمن يعرف ممّا صنع طبل الملك؟ أما من يعجز عن الإجابة الصحيحة فسيقطع رأسه دون رحمة، وبهذا يضمن ألاّ يتقدم للمسابقة إلا كل جريء مقدام، فيحفظ للعرش هيبته، كما يضمن أن من سينجح سيكون قد أوتي حدساً خارقاً كعرّاف أو كنبي!

جاء الناس من كل حدب وصوب في السلطنة راكبين رؤوسهم طريقاً إلى العرش، راجلين وركباناً، فرادى وجماعات، من شتى المهن والحرف، ومن كافة الملل والنحل.

دخل الأول فقـال: طبلك يا مولاي لا يضرب إلاّ لأمر جلل، حتى لو سكت طويلاً، ولا بد أن طبعه له علاقة بطبع الجمل، الذي لا يخرج كلمته إلا بعد أن تمر بدرب طويل.. طويل.

قال السلطان: اقطع رأسه يا جلاد!

تقدم المتسابق الثاني، وقال : طبلكم بطبع الثور أشبه، فمهما قرع، لا يكل، ولا يمل كثور الفلاحــة العنيد، ولا يتحمل الجور إلا الثور يا مولاي، فلا بد أن يكون من جلد ثور..!

قال السلطان : اقطع رأسه يا جلاد!

دخل المتسابق الثالث، وقال: بل هو أشبه بالمتعجل الذي لا صبر له، ولا يحفظ وداً، فهو يشبه قطة وديعة: التي جابت رأس الشيخ بالقفة، وبالت على النار!

قال السلطان: اقطع رأسه يا جلاد!

تكومت الرؤوس تلالاً، ولم يبق أحد من المتطوعين، أصبح غيث الناس قطرة مطر عابرة.. تمثلت في متشرد كان يجوب الفيافي والقفار ساعياً من أقصى البلاد إلى السلطان فهو يعرف الجواب، إذ في ليل تشرده الطويل، استوقفته عجوز شعرها كشجرة الحرمل ، وقالت له: فلّّّيني..!

قال: لا ينقصني قملك..!

قالت: إن فعلت سأعطيك عرشاً!

ولما كان المتشرد يؤمن بأقوال العجائز اللواتي يركبن الدنون ويأتين بالفنون، أدرك أنها سعده، فجلس يفلّيها فشاهد قملتين تتهامسان، قال: لأسمع ما تقولان قبل أن أسحقهما! فهمست الأولى للثانية: كل الأغبياء الذين سيتقدمون لمسابقة السلطان لا يعرفون أن طبله صنع من جلد أختنا القملة التي ترّبت في رأس حنفيش شعره كأغصان شجرة..!

وصل المتشرد إلى قصر السلطان ليلاً، وكان السلطان يحلم بأنه عاد إلى صباه، وأنه يركب حورية بيضاء.. فطرق المتشرد باب القصر، فقال السلطان دون أن يغادر حلمه: لا تزعجونني..! لكن المتشرّد أصر أن يُسمع السلطان جوابه الليلة لا غداً، فتوالى الطرق على الباب، فاستفاق السلطان، وفرّت الحورية مذعورة، ولم يستطع السلطان أن يقوم بنفسه، بل سنّدوه، وعدّلوه، وركّدوه على رجليه .. وهو يبربر من الغضب، وقد صارت عيناه في قحوف رأسه، وحقد حقداً لئيماً على المتشرد الذي جعل الحورية تفرّ من يديه، وبيّت له أمراً، وحين استوى على كرسيّه، قال: ادخلوا هذا الأحمق الذي أطار صوابنا، وجعل الجنة تفرّ من أحلامنا..!

قال السلطان: هات ِ ما عندك..!

قال المتشرد: طبلكم يا مولاي بطبع القملة أشبه، فهو إعلان بضرائب كالوخم، وإعلان بحربٍ ضروس تمص الدماء.. وإنه من جلد قملة…

قال السلطان: يا جلاد.. اقطع رأسه!

فتح عبد الله عينيه دهشة، ولم يصدق، لأن المتشرد في الحكاية المذكورة كان قد فاز بالجائزة حقاً. ارتجف عبد الله غضباً، فهو يعرف الجواب قبل أن يصل المتشرد إلى سلطانه،فقد مرّ قبله على العجوز، وسمع الوشوشة ذاتها، والجواب نفسه، بل لقد أعطته العجوز ثلاث شعرات من رأسها كان يكفيه أن يحرق إحداها للوصول إلى السلطان قبل المتشرد، وهو الذي كان يتحرّق شوقاً للوصول إليه، ويتمنّى لو أنه من رعاياه، ولكنه الآن حمد الله لأنه لم يستخدم شعرات الجنيّة العجوز، ولم يصل قبل المتشرد، وإلاّ لأصابه ما أصاب المتشرد..!  

أديب وقاص سوري راحل | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

أيمن ناصر … انطفأ قنديل آخر

رحل الفنان التشكيلي والنحات والروائي الفراتي أيمن ناصر إثر صراع مع المرض في مدينة أورفا …