الرئيسية » مبراة » “النطاح الثقافي”..!

“النطاح الثقافي”..!

ساهمت الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الست الأخيرة بانقسام المجتمع على نفسه، ليس المجتمع بكليته فحسب إنما انقسمت حتى أصغر خلاياه (الأسرة)، وفرض الانقسام الحاصل بين مؤيد لما يجري ومعارض له إعادة اصطفاف وتشكيل تحالفات جديدة وتغيير جزئي وكلي في الإيديولوجيات، بعضها جاء وفق المصلحة العامة وبعضها الآخر كان بما يناسب المصالح الشخصية لأصحابه وقد طغت هذه الأخيرة على سابقتها وتخطتها بأشواط كبيرة.

وكما فرضت الاصطفافات الجديدة واقعاً ثقافياً مُغايراً لما ألفناه خلال عقود انصرمت، فرضت أيضاً مصطلحات جديدة طرحها الشارع وتبناها المثقف وحاول إلباسها لبوس الحداثة، أو ما بعدها معتبراً إياها إحدى الأدوات “الثورية” التي يشهرها بوجه من نصبهم خصوماً له في مرحلة إعادة الاصطفاف، و”التعليم” عليهم بطريقة شوارعية، بينما كان ينظر إليهم قبل سنوات فقط على أنهم قدوته الحسنة والآباء الروحيين وعلى أقل تقدير كان يرى فيهم أساتذة يجب احترامهم والاعتراف بدورهم الثقافي والأدبي في المشهد السوري والعربي.

أما اليوم فاختلفت المفاهيم باختلاف المصالح، وانسحبت مصطلحات الشارع على الثقافة أيضاً ولم تقتصر على الحرب والعسكرة، وأصبح المثقف الذي اختار الوقوف إلى جانب حكومة بلده، ولم يقبل بالخروج على الحاكم، يوصف بـ«المثقف الشبيح»، وأحياناً يغالون بحقدهم وكرههم له فينزعون عنه صفة المثقف ويكتفون بنعته بـ«الشبيح»، لمجرد الخلاف في الرأي، هو «شبيح» قولاً واحداً وفق مفهومهم، وإن لم يكن يملك سيارة “مفيمة”، ولم يحمل العصي الكهربائية والهراوات ويطارد المتظاهرين في الشوارع والأزقة، وهذا الأخير يقابله بالضرورة «المثقف المندس»، أو «المثقف العرعوري»، حتى وإن كان هذا الأخير يشرب الخمر ويمارس الجنس خارج إطار العلاقة الزوجية، ولم يتآمر على البلد ولم يقبض المال للخروج في المظاهرات حين كانت سلمية، ولم يتواصل مع جهات خارجية أو يساهم في وهن نفسية الأمة التي ثبت بالأدلة القاطعة أنها واهنة أصلاً.

 إن لم تكن معي فأنت عدوي قطعاً، وفق هذه المعادلة البسيطة أعيد رسم العلاقة بين المثقفين لتكون مُعقدة وواضحة بعيداً عن علاقة الاحترام والحياء الأدبي الذي كان يسود بين الأجيال في جميع المجالات الثقافية.

ذات مرة أرسلت مادة صحفية ثقافية لأحد المواقع الممولة من دولة قطر، فاحتج الشاعر السوري الذي يشرف على الموقع ويديره على مادتي أني استشهدت فيها بمقولة لأديب سوري يقف في صف الدولة السورية واصفاً إياه بـ«الشبيح»، رده البائس هذا جعلني أشعر برغبة عارمة باستعادة مقالتي وعدم نشرها، بل وذهب تفكيري بعيداً ربما كان يغمز إلي أيضاً من خلال حديثه عن «التشبيح»، وأنا الذي أهدروا دمي يوماً على صفحات التواصل الاجتماعي بالتهمة ذاتها زوراً وبُهتاناً.

قد يحتاج ما يجري إلى إعادة ضبط إيقاع، رغم أن في ذلك صعوبة بالغة، لكل يجب على جميع الأطراف المتناحرة أن تؤمن بالتعددية الثقافية وتسعى إلى ترسيخها بدل التناحر ككباش النطاح السياسي والعسكري، لأن الرهان على المثقف ودوره ما زال قائماً وإن كان قد انتكس في مراحل عديدة، وليس أمام المثقفين من خيار غير التلاقي في منتصف الطريق كي لا ينطبق عليهم قول سبط بن التعاويذي:

«إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفِّ ضارباً / فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرَّقصُ».

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فراس م حسن

فراس م حسن
قـارئ، مستمع، مشاهد، وكـاتب في أوقـات الفراغ.

شاهد أيضاً

لا أريد أن أكون وقحاً !

كان أحد الأصدقاء يقول لي كلما التقينا وتحدثنا في الشأن العام قبل وبعد أن صار …