إبراهيم حسو |
تمثل الصورة للصحفي في كيفية إنتاج إحساس مستمر للذاكرة اليومية القابضة على كومة حياة متنقلة , وتعني جعل الصورة جزءاً من انفعال بصري بسيط وصارخ حسب ما تقتضيه مزاجية المشاهدة والتخيل أو تفكير معمّق أو تأمل ظاهري للعين الخفية, العين النائمة, الصورة في يوميات الصحفي ليست بورتريه مؤّطر أو صفحة ملونة لرأس إنسان أو أي مخلوق متحرك أو ساكن, إنها ثورة في التفكير, ثورة في الوصف المرتجل لأدنى الشعور الإنساني, إنها ثورة في سلوك العين لتحريك الأشياء وتشتيتها بنفس الوقت, إنها خالقة المعرفة الحسية والعقلية معاً, المعرفة الحدسية والمعرفة العقلية, مجرد مشاهدة صورة معينة تخلق معرفة ذوقية للعين ومجرد التفكير بها أو التعمق فيها تصنع إدراكاً بصرياً لا حدود له, أو كما يقولون تتدفقاً بصرياً, وبصحيح القول تبني الصورة قيما إبداعياً في الكتابة الشعرية وما الوصف إلا سمة ظاهرية لها.
واليوم فأن الفكر الحديث لا يتوقف أبداً عن طرح أسئلته المستمرة حول الحداثة وما بعد الحداثة, هذا الفكر الذي يتشكل ويتجذر على شكل نظريات تظهر مع ظهور تيارات نقدية وحساسيات نقدية مناوئة لهذا الفكر أو ذاك في إقامة حوار متشعب وكثير الالتباس, ويبدو أن الدراسات النقدية الحديثة خاصة تلك التي تبحث وتدرس الحداثة وما وراءها أصبحت معنية وبشكل متعاظم بهذا الإشكال النقدي وذلك في ربط أنشطة الرؤية والنظر والمشاهدة بحقول معرفية وفنية عدة منها ( الأدب والفنون وألعاب الفيديو والعلاج البدني والنفسي بالصورة) وكل ذلك في برنامج عمل مرهق متعدد الأبعاد و متنوع المجالات.
وما يهمنا اليوم ونحن نواجه تيارات وإشكالات الحداثة والعولمة والفضائيات هو ثقافة الصورة ما بعد الحداثة ويظهر من خلال الصورة الفنية أن الشاعر مثلاً يستطيع أن يصل إلى انطباع موحد واحد مباشر عن طريق الوسائل الفنية التي يستخدمها كذلك الفنان التشكيلي فيكون الشعر هنا صورة ناطقة وبالموازنة الدقيقة بين الصورة الشعرية والصورة التشكيلية نجد أن هناك توازن بين الشكل المكاني في الفن البصري والأدبي هذا التوازن الذي يؤدي إلى تأكيد الاهتمام بالتفاصيل البصرية بدرجة تبدو شبه مرضية وعلى تقوية عملية الانتباه للتأثيرات التي تحدث على السطح والتي يمكنها أن تؤدي إلى تفضيل اللون على الشكل كما في المدارس الانطباعية في الفن التشكيلي.
وهناك أيضاً دراسات ( إشكالية ) جديدة حول حقول الشعر البصري الذي أخذ به الناقد المصري شاكر عبد الحميد إلى نحو بعيد في فضاءات الشعر الإغريقي واقتباس نصوص ذات اتجاهات دينية, والمعروف عن الشعر الديني الإغريقي مستويات القراءة الأفقية والعمودية ولا أعرف ماهي هذه القراءة العمودية والأفقية التي يقصدها بعض الباحثين الانتربولجيين الذين اقتبسوا روايات عالمية ذات الوعي البصري والتي تسمى بالروايات الشيئية والتي تهتم بعوالم الأشياء الواقعية من عوالم الحواس والإدراك, حيث تلعب حاسة البصر دورًا كبيرًا ومهيمناً, خاصة في الوصف التفصيلي للأشياء في القصص الشيئية كأن الهدف منه هو الإيحاء بصورة بصرية للأشياء من خلال السرد البصري المكثف. وفي مكان آخر يرى بعض الكتّاب أن ثمة سرد طويل لأراء وأقوال جملة من الشعراء الأوروبيين والأمريكيين في مهمات إيضاحية لإنجازات النص البصري القائم على تأسيس واعي للعمل الفني بطريقة حرفية ( عين الكاميرا ) و ( عين الفن ) وإبراز عدة صور توضيحية حول نشاطات المخ وظائفه ودور هذه النشاطات في التعريف بالمجازات اللغوية والمجازات الصورية بوصفها ظواهر بصرية خالصة.
لكن باحثاً أخر هو تشارلز لوبرتون في استطراده الطويل حول الصورة في الأدب و الشعر لا يغيّب أبدًا الدور الوجودي للقيمة الجمالية لهذه الصورة وذلك عبر اللقطة التشكيلية أو على حسب كلامه محاكاة الواقع البصري في إنشاء أشكال تمثيلية خدمت الأهداف المرجوة في المجتمع الإنساني, ولورجعنا إلى المجتمعات القديمة في مصر القديمة سنجد أن الصورة التشكيلية في تلك الفترة كانت تصور المكان والحجم والضوء وبطرائق مختلفة تماماً دون أن يكون هناك نظام تكنيكي ذات صياغات فنية مدروسة لكن كانت هناك ثقافة نظرية في تصوير الجسد الإنساني في أكثر حالاته اكتمالاً .
حتى في المسرح فأن الباحث هوربيت ريد يثير مسألة في غاية الأهمية حول الصورة والمشهدية والأداء والمثيرات الحسية والبصرية والسمعية وغيرها وتكمن أهمية هذه المسألة في الحساسات المثيرة ذات المعنى كمستويات الذاكرة وأفاق الخيال والتلاعب بانتباه الجمهور عبر المزج الخاص بين الصورة والحركة والصوت والإضاءة. ويظن الباحت أن الحركة هي أهم المثيرات الحسية مع أنواع مصاحبة للصورة كالحركات الضمنية والحركات الآنية والمتزامنة والحركات السريعة اوالمتسارعة والبطيئة ثم الحركات المفاجئة وكل هذه الحركات تحدث وفق التدفق الطبيعي للمشهد أو (الصورة) فعندما يتغير المشهد يظل هناك نوع من الحركة وتحدث عملية أختلال في التوازن البصري بسبب عدم إشباع النظر أو المشاهدة للمشهد السابق. وعن أهمية وجود المسرح كمادة خصبة للمشاهدة أو حسب (الصورة الحركية) والتي تقوم على تحويلا ت صورية (المشاهدة والفرجة ) وتحولات لغوية (حوار ) ويقول الباحث أن الكلمة في المسرح تراجعت كثيرًا بسبب تقدم الحركة والصورة وأصبح المسرح مزيجاً من المسرح والموسيقى والسينما والتلفزيون وتداخلت الحدود بين الرسم والتصوير والمسرح أيضاً.
وهكذا فأن عصر الحداثة وما وراء الحداثة بسلبياته وإيجابياته يحاول الاحاطة بكثير من جوانب حياتنا الإبداعية والفكرية في تجربة الغوص في بحر من إشكاليات التفكير والإبداع الإنساني.
شاعر وناقد سوري | خاص موقع قلم رصاص