غادة السمان |
من أي الأبواب أخطو إليك
ونحن أوصدناها بإتقان فيما بيننا،
وفخّخناها؟
كيف نسفنا الجسور ذات ليلة جنون
وزرعنا الألغام في الوادي، وأضرمنا الحرائق
وعاد كلّ منا إلى قواعده.. غير سالم؟
منذ افترقنا يا سيدي
وأنا أسقط في تلك البئر المعتمة داخلي..
أهوي وأتضرع كي ألامس القاع أخيراً..
***
حُبُكَ بعيد المدى
عابر للقارات الليلية والسنوات الضوئية للفراق..
ركبت طائرة الغربة هاربة منك،
فاكتشفت أنك ربانها..
هربت إلى فندق النسيان،
فاكتشفت أنك اشتريته في الليلة السابقة..
هربت في باخرة سياحية،
فوجدتها تحمل اسمك وبصماتك..
مضيت إلى جزر آكلي اللوتس،
فلقيت بناتها يهذين باسمك
وأشرق وجهك في غروب الشمس..
لا خلاص من حبك يا سيدي لبنان، إلا بالاستسلام..
***
أتذكّر غابة، تركض عبرها نار شفافة:
كنا عاشقين!
أتذكّر تفاحة بنفسجية، رمالاً بنفسجية
ثم تمتد يدك خضراء،
وعليها تركض أفراس العالم الجميلة..
وأتعلم الصهيل وخبب الليل وأحبو حتى عنقك..
أريد أن أتذكّر أنني أحببتك مرة حقاً
كي أضمك إلى السلك الديبلوماسي للذكريات
خارج حلبة حياتي الحاضرة.. وأتحدث عنك
ببرود قفاز أبيض، ووقار سفير، وحياد مشرط..
وأكرّسك ذكرى جميلة في حرم الماضي..
لا أجرؤ على الاعتراف أنك مشروع إعصار آت…
ولستَ حباً مات وفات
***
من يعاقب هذا السيد الحزن
لأن أهله رضوا ذات يوم
بمقاسمة الآخرين خبزهم وشمس حريتهم؟
أما زال الليل ينتظرنا عند منعطف التنهّدات
في تلك الجبال القمرية اللامنسية؟
أعترف بحزن أطفال المياتم: لقد أحببتك مرة
ثم قررت أنني نسيتك..
وأنا أصلي منذ ذلك الزمان الغابر
كي أكون قد نسيتك حقاً!!..
عيناك شاسعتان في المسافة بين الأرز والتبغ
والكرمة والياسمين والكرز والحرائق والمذابح
على طول الشواطئ والجبال حتى حافة جرح قلبي..
أتذكر كيف ركبت حصان الجنون إليك مرة،
وقفزت به من فوق أطفالك وأصدقائك ومجدك،
كأرعن في سباق عمى الحواجز..
ثم حدث خلل بسيط:
لقد أشرقت الشمس صباح اليوم التالي!
***
كنت أعرف أن أيامي معك
حبة سكر في فنجان شاي الصباح..
لكنني عاملت قطعة السكر كجزيرة. أقمت فوقها..
حملت جواز سفرها. نشرت راياتي. نثرت أوراقي..
دققت أوتاد خيامي. زرعت الصنوبر ودويكات الجبل…
ثم ذابت قطعة السكر، وخلّفتني في قعر الفنجان..
مرة، حفرت بئراً، فلم أجد النفط ولا الماء..
ووجدت الحبر!.. واكتشفت الحرية..
هذا قدري معك، أن لا نعيش حكايتنا
وأن أكتبها…
***
ضالة معك، تائهة، قلقة،
وضالة بدونك
مثل قطة أليفة أودعوها كيساً،
تمهيداً لرميها بعيداً في حقول فظة تجهلها..
وحين يداهمني أحد وأنا أستحضرك وأكتبك
أخاف أن تطل من نافذة عيني
فأخفيك جيداً بين أوراقي يا سيدي
وأغطيك بأسنان الضحكات القسرية الهزلية،
لكن اسمك يعلو بهدوء كمنطاد، ويتصدر الصفحات..
وأظل أكتب لك جرحي كل عام
ومن قطارات الغربة أمد لك رأسي
وأصرخ في وجه عالم متوحش
يقتلك أو لا يبالي بموتك:
كل عام وحبك سيدي يا لبنان.
نقلاً عن الموقع الرسمي للشاعرة