خالد عبد العزيز |
يُمثل فيلم قبل زحمة الصيف للمخرج الكبير محمد خان تجربة مُغايرة عن أفلامه السابقة، فأغلب أعمال خان تتبلور داخل مدينته الأثيرة القاهرة، و نادرا ً ما خرج خارج حدودها، هنا في تجربته الجديدة يأخذ المُتفرج في نزهة للساحل الشمالي مُتتبعًا حكايات شخصياته التي لم تتعد أصابع اليد الواحدة، فلكل منهم حكايته الخاصة و همومه التي آتى من المدينة أما لينساها أو ليأخذ هدنة من التفكير فيها .
تدور الأحداث في قرية سياحية حيث يقضي الدكتور يحيى (ماجد الكدواني) إجازته برفقة زوجته الدكتورة ماجدة (لانا مشتاق) التي سيتضح بعد ذلك أن إجازته ما هي ألا هروب من الأزمة التي يواجهها في عمله و تتحدث عنها الصحف اليومية! تصل المترجمة مدام هالة (هنا شيحة) للقرية لقضاء عطلتها هي الأخرى ثم نكتشف أنها تنتظر صديقها (هاني المتناوي) وعلى الجانب الآخر جمعة (أحمد داوود) الذي يرقب الحياه في القرية بعين آخرى تُشكل زاوية مُغايرة للسرد و يُمكن أن تُحيلنا إلى نقطة آخرى و هي الفوارق الطبقية .
رسم الشخصيات و أبعادها الذاتية
المُلفت في الفيلم أن عدد الشخصيات يبدو قليلًا، لكن أبعاد الشخصيات بجوانبها النفسية و تعقيداتها جعل التناول زخمًا للغاية، و بدت العلاقات بينهم مُتشابكة و ثرية .
شخصية الدكتور يحيى : هارب من الأزمة التي تواجه المستشفى التي يملكها بعد وفاة أحدى المرضى ، ونجده ينسى تلك الهموم بحبه للأكل أو باستكتشاف الجارة الجديدة “مدام هالة”. أما على الصعيد الداخلي في علاقته مع زوجته الدكتورة ماجدة فلعلاقتهما يكتنفها العديد من الاضطرابات، فكل مُنهما يبدو وكأنه يعيش في عالم منفرد بذاته. ماجدة التي تكاد لا تطيق يحيى بسبب ما وصفته بـ “فضائحه” في إشارة إلى أزمة المستشفي التي يواجهها لاعتماده على الأطباء حديثي التخرج الذين يعملون بدون تدريب كافٍ، والأهم فضائحه الآخرى وهي علاقاته التي يبحث فيها عن رفقة بديلا عن ماجدة .
الدكتورة ماجدة: زوجة الدكتور يحيى تبدو مُنعزلة عنه وغارقة في النظام الغذائي والتأملي الذي تُمارسه بصفة دائمة، تبتعد عن يحيى بشكل كامل، تشعر بتفردها عن الآخرين، فأثناء مشهد العشاء الذي يجمعها مع هالة ويحيى نجدها تفتخر بأنها من أوائل من امتلكوا شاليهات في القرية السياحية ، فالشاليه صف أول . رغم ما تبدو عليه شخصيتها أنها تعيش في واد مُنفرد، ألا انها تحمل حنينًا لأبنها الذي يدرس في الخارج بعد أن زهق من تصرفات والده يحيى على حد قولها، كما أنها لاتزال تكن ليحيى بعض من محبة وتتضح هذه المحبة من خلال مشهدين غاية في الروعة . المشهد الأول يدخل يحيى الحجرة أثناء نومها و يلقي نظرة جائعة لجسدها، ثم يخطو للخلف خارجا ً من الحجرة، فتلتفت له ماجدة مُمسكة بيده أن ينتظر . المشهد الآخر حينما تفتح اللاب توب الخاص بيحيى لتكتشف أنه يحوي صورا ً إباحية، فتنهمر دموعها لاكتشافها مدى تدهور العلاقة بينهما بسبب بُعدها عنه .
مدام هالة: مترجمة مطلقة تذهب للقرية السياحية بحثا ً عن الهدوء ولانتظار صديقها الممثل المغمور الذي سيزورها، وكأنها تود أن تهنأ بعض الشئ بعيدا ً عن صخب أولادها برفقة صديقها، الذي يتضح أن علاقته بها براجماتية فقط لقضاء وقت لطيف، دون أن يتخذ خطوة إيجابية.
جمعة: الشاب الذي يعمل محل شقيقه الذي ذهب في إجازة ليتزوج، يُمثل جمعة رؤية مختلفة عن باقي السكان، فهو ينظر لهم نظرة هي مزيج من التمني و الحقد ، قد يبدو وكأنه نقي بأعتباره قادم من الريف “خام” لكنه أيضا ً أنه يحوي شرا ً كأي طبيعة بشرية تحوي النقيضين. و يتجلى هذا الشر في تحريره للببغاء من القفص لتأكله القطط بعد ذلك . أما على مستوى علاقته بهالة فتُعد علاقتة مُعقدة للغاية ، فنظراته توحي برغبته، وهي بالتأكيد لا تدرك ذلك أو تتغاضى عنه بسبب الفوارق الطبقية ، يصل الوله بجمعة أن يحتفظ بعلبة سجائرها التي نسيتها على الشاطئ بعد حادثة الغرق، أو إمساكه للمايوه وتأمله له بنظرات حالمة .
التصوير و الرمزية في التعبير
كعادة محمد خان يُشكل تكوينات بصرية بالغة الرهافة، تَعمل على اثارة عقل المُتفرج للبحث عن دلالتها في تكوين المشهد .ويحوي الفيلم على العديد من هذه المشاهد منها :
المشهد الخاص بدخول الدكتور يحيى لحجرة النوم ليجد زوجته نائمة، فتستيقظ فجأة لتسأله عن وجوده، ثم يقطع المخرج اللقطة على صورة أبنهما وكأنها تُذكره بأن له ابن، وكأنه يقف حاجزا ً بينهما .
النوافذ وعلاقتها بالشخصيات، في الفن التشكيلي يبرز اسم “ادوارد هوبر” لأنه عبر عن شخصياته من خلال اطار النافذة الذي يبدو وكأنه يُمثل حدود هذه الشخصات. هنا تبدو النوافذ و كأنها تُمثل حدودا ً أيضا ً لا يُمكن تجاوزها ، مثل المشهد الذي يجمع جمعة بمدام هالة حيث ساعدها للوصول للشاليه بعد أن سقطت على الأرض فتدخل حجرتها وتُغلق النافذة وتلقي بجسدها على الفراش وتبكي، يقف جمعة يُتابعها بشغف، فتبدو النافذة وكأنها حاجز يمنع اللقاء بينهما ، فلا يبقى له سوى الخيال الذي يُحلق به حيث يتمنى.
مشهد آخر تتجلى فيه فلسفة النوافذ، بعد العشاء الذي جمع يحيى وماجدة وهالة، تتشاجر ماجدة مع يحيى بعد أن تكتشف أن القطط أكلت الببغاء، فتطرد يحيى خارج الشاليه ويقف وراء النافذة يطرق بيده عليها يستجدي ماجدة أن تفتح له وتسامحه، هنا النافذة تبدو وكأنها حاجزا ً أو حدا ً قد لا يتمكن يحيى من عبوره في لافتة ذكية لتفاقم المشاكل بينهما وأن العلاقة يشوبها حواجز تمنع توافقهما مرة آخرى.
كلمة أخيرة
أهم مكسب في الفيلم هو آداء هنا شيحة المختلف عن كل أدوارها السابقة، فقد أُعاد خان أكتشافها مرة آخرى وقدمها في ثوب الآغراء، ونجحت إلى حد بعيد في التعبير عن الشخصية وصراعها سواء الخارجي أو النفسي . وأيضا ً آداء الذي أتسم أحمد داوود بالتلقائية و بساطة في الآداء .
قبل زحمة الصيف تجربة محمد خان الجديدة التي قدم فيها توليفة مُبهرة من البحر والرمال التي تركض عليها مشاكل وهموم شخصياته، اجتمعت مصادفة قبل زحمة الصيف .. تُرى هل ستنتهي أزماتهم أم يبقى الوضع على ما هو عليه؟
جريدة القاهرة