مناهل السهوي |
أن تكون شاعراً يعني ألّا تصدق أنك تكتب، ألّا تنظر ما حول القصيدة، أن تكتفي بإقحام أنفك في بودرة النصوص، لتندفع عبر الزجاج الشفاف للحياة فتخرج وأنت تنزّ دماً، تكتب لأنه يتوجب فعل ذلك، لأنك لا تملك خياراً إلّا أن تصفع حزنك ومن ثم تأخذه في حضنك كحيوان أليف، كذلك فإن تربية الحزن هو العمل الأول في مجموعة خالد صدقة “كلهم يركضون خلفك الصياد والغزالة والغابة” الصادرة عن دار الأهلية – الأردن. لا يكفي أن تكون حزيناً، لا يكفي أن تمارس الحزن برويّة كل يوم، أنت فعلاً تحتاج ألّا تصدق أنك تكتب.
العدم يتربع في المكان
الزمن “العائم” المُتخيّل، هذا ما حاول خالد الوصول إليه -حتى وإن لم يتعمد ذلك- أن يدفعك بكلك للإصغاء، إن هذه النصوص غارقة في الزمن، إن الوقت هو العدم المقدم مع أحداث اعتيادية، أحداث تقتصر على حركته بين أثاث المنزل أوفي قطع الشارع، أو في ركوب السيارة، فالخيال لا يتصل بالوقت بقدر ما يتصل بالعدمية في مواجهة الحب والرغبة والانكسار.
فالحب هو صديق اللاجدوى القريب، صديق الفراغ الهائل، التشبث بقوّة بالخسارة النهائية، العدم في نص خالد هو النقصان بلا نهاية، عندما تقرأه ستشعر بذلك، نقصان محبب في التلاشي ليجعلك تتساءل “لماذا نودُّ فعلاً النجاة بدون الحب!”.
ليتحول العدم لأشياء يومية، لأثاث المنزل أو لكنزة الحبيبة السوداء التي وجدها فجأة في صندوق السيارة، إن العدم هو اختفاء الحب، هو عدم القدرة على تصديق الحقيقة في ضياعه وما يحول دون استسلامه النهائي للعدم هو صوت الجرس البعيد، صوت الحب الخافت داخله كضوء مريض.
“كيف انتهى كلّ شيء فجأة!
كان الأمر أشبه بانفجار الإطار الأمامي لسيارة رائعة ومسرعة
واسأل نفسي، ما الذي يجب عليّ فعله الآن؟
أنتِ تعرفين:
كنتِ أنتِ، خطتي الوحيدة في هذا العالم!”
الحب في مواجهة الرجل الوحيد
إن قصائد الشاعر هنا، تهزّك من كتفيك حتى تؤلمك، ماذا تنفع حياة الرجل بلا حبّ!، إن نصوصه تشعل فيك رغبة معرفة الحب أكثر، التعرف عليه عن كثب، في مراحل الولادة والنضوج والموت الذي لا ينتهي، لو مات هذا الحب عن بكرة أبيه لما وجِد الشعر! نصوص تحمل داخلها الحب الذي لا ينتهي ذلك الذي يترك خلفه كل هذه الشّعر، كأنّه يقول حين لا ينتهي الحب نحن نكتب كل هذا.
يتجه خالد في المجموعة نحو التفاصيل الروتينية للحياة الماضية المغروسة في الحاضر الثقيل، يصنع صور كثيفة، بسيطة في المفردات، حادة في السقوط داخل النفس، ثمة انتقال سهل بين التراكيب كأنك تدفع ريشة في الهواء بأنفاسك الأمر الذي يكشف لنا تراكمات طويلة من المعاناة، ثم يأتي تأنيس “المجردات” التي تُقدِم عزلة لامتناهية للقارئ من جهة، ومن جهة أخرى قد يقترحها الشاعر بأسلوب حميمي يجعل الخوف والحب والألم صديقاً قديماً.
هذه التقنية الفطرية في التقرب من أكثر المشاعر والمجردات غموضاً واستحالة في التقاطها، إنما تبدو في القصائد كبداية للتعرف على العالم من جديد. كل نص له هناك معرفة جديدة للعالم، هذا الشّعر محصلة التصاق الحالة الطفولية في نفسه، الحالة الصرفة، المندفعة والصادقة وهذه إحدى أسرار الكتابة حين نكتب بكِلا الوجهين الطفولي والناضج:
“لكن، أن أعثر على كنزتك في الصندوق الخلفي لسيارتي!
الأمر يشبه كما لو أن جثة استيقظت فجأة وسط حشد من المعزّين، وبدأت تفرك عينيها!”
الرسام والشاعر يكتبان سوياً
تمنحك القصائد مساحة خاصة للاستمتاع والخيال، كأنك تقف أمام لوحة وتنتقل بين الخطوط والألوان بعينيك، وذلك هو أحد الأمور التي تركتها شخصية الرسام والكاتب في آن معاً، النصوص لوحاتٌ، تدفعك للتخيل، لتصور المكان، تفاصيله، الظل والنور، ستشعر كما لو أنك بت تميّز بين الألوان بين نص وآخر ستشعر بظل نص ونور آخر، في المقطع التالي لا يمكنك سوى تخيل المكان، بهدوئه، وضوئه الخافت:
“من أسوء الأمور التي قد تحدث لرجل وحيد ومتروك
أن يضيع ريموت التلفزيون لديه
وأن يتذكر امرأة عارية تقف عند باب الثلاجة”
هنا لا يمكنك إلا أن ترسم حدود الغرفة، مكان الثلاجة، التلفاز الذي لم يعمل بعد، شكل الحبيبة المتَخيلة وأن يدفعك ذعر الشاعر للاستيقاظ من المشهد كله، ستشعر بذلك الألم للواقع، خالد يتقن نقل مشاعره للقارئ ببساطةِ طفلٍ يشدُّ ثوب امرأة لتنتبه إليه، في هذه النصوص لسنا أمام وصف وكنايات وتشابيه وحسب، فهذه النصوص تورط الكاتب والقارئ معاً، تخلق بُعداً نفسياً للحدث الذي ساهم في إيصاله بهذه الكثافة المحببة اللوحات المتخيلة في ذهن الشاعر.
النهايات ليست محض صفحة أخيرة
“أنا روسيّ في الحب
أضع المسدس تحت ذقني
وأضغط على الزناد
إما أن تقتلني الرصاصة الوحيدة
أو أنجو من حبك هذا
أنا لا أجرب حظي مرتين”
الشحنة التي ستخرج بها من هذه المجموعة أشبه بصدمة كهربائية لمريض توقف قلبه، في النهاية ندرك أننا مع كلّ نص كنا نحصل على قطعة من بزل الألم ونضعه على روحنا حتى تكتمل اللوحة، ستتساءل يا إلهي ألم أفعل ذلك مرة ألم أشرب القهوة بكل هذه الرتابة!، ألم أنتقم من ذكريات حبيبتي!، ألم أتناول الفودكا مرات ومرات أمام النافذة! هذه اللوحة التي قد تشبه الكثر، قد تشبه صراعاتهم الوجودية، أحلامهم، خيباتهم، إلا أنها في الحقيقة لم تكن سوى مبضع خالد الذي جرح به كل شيء حوله، الهواء والطرقات والوجوه الباردة، المبضع الذي حركه بألم ذكي ليترك خلفه جرحاً مفتوحاً في كلّ مرة يفتح أحدهم كتابه ويقرأه.
شاعرة سورية | خاص موقع قلم رصاص