رابح حمودة |
إهداء إلى كل من يؤمن بالقضايا الإنسانية العادلة :
بدت خطواته متثاقلة وهو يمشي في ردهة ذلك المعتقل الطويلة الذي تسكن زوايا جدرانه خيوط العناكب في ضوئه الباهت سطع ضوء خافت على وجهه الأبيض بتقاسيمه الحادة بدا صلباً بقامته المسلولة وجسمه الممشوق ببدلته العسكرية الزيتية التي بدت عليها غبرات أرسلتها هفهفة رياح الصحراء الهادئة القادمة من أمواج رمالها الذهبية التى تخفي بباطنها كنوزاً تسيل لعاب قراصنة العصر وهو يسمع صرخات وآهات المعتقلين من طرف النظام، ويرى زنزانات التعديب الضيقة لقد مل من هذه المناظر البشعة التي تلازمه طوال فترة مداومته كان أحد المشرفين على ما يرى النظام أنه تقليم أظافر المتآمرين في ذلك المعتقل المغروس وسط الصحراء العراقية.
كان يئن لصرخاتهم وهم يُجلدون ويبكي عليهم وهم يُذبحون لقد كان يتمنى مثلهم زوال ذلك النظام الاستبدادي السرمدي الذي طال ظلمه كل أبناء الشعب العراقي فكر في الكثير من المرات أن يهرب من جحيم صدام لكن ظروفه المادية والعائلية والتزاماته المسؤولية حالت دون ذلك فالحصار الاقتصادي المفروض على بلده جعل دخله يئن تحت وطأة أعباء السفر وتكفله بأمه يوجب عليه ملازمتها حتى الممات وعمله الحساس جعله مكبلاً في أرض الرافدين، رغم كل ذلك بقي حاتم الصفدي متمسكاً بأمل الخلاص في يوم من الأيام فلابد لعجلة الزمن أن تدور فلولا كثرة الرؤوس المقطوعة والقلوب المفجوعة والشجاعة المنزوعة، وآيات الخوف المزروعة لما طال عمر ذلك النظام لتمتد جدوره في أرض الرافدين خمساً وثلاثين عاماً ليجعل من العراقيين عبيداً مسخرين لخدمة أهدافه الهتلرية الحمقاء تحت شعار كاذب ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة )، تغير العالم كثيرا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر كان لابد لأمريكا أن ترد بعضاً من ماء وجهها أمام العالم، ولابد لها أن تذبح الكثير من الكباش ليكون للسكين الأمريكي هيبته فمن أفغانستان نسجت أمريكا خيوط ما اسمتها معركة الحرية في مواجهة قوى الشر والظلام لتدك جبال طورا بورا، كان البلدوزر الأمريكي يثير الغبار أينما تقدم إلى أن رأى في العراق طريقاً لابد من سلوكه.
أصبح نظام صدام حسين يبدو غريباً في منظومة العولمة الأمريكية خارج حدود الزمن الأمريكي كورم سرطاني خبيث كان لابد من استئصاله، كانت بغداد المدينة الساحرة التي تغنى بها الشعراء وكتب عنها القصاصون والرواة حكايات الشرق وأساطيره تبدو هادئة وفي ساعة كانت تلوح فيها خيوط فجر يوم جديد يحمل للعراقيين الكثير والكثير كانت صبيحة يوم الخميس العشرين من آذار “مارس” عام ألفين وثلاثة عندها بدأت صواريخ أمريكا تسقط من سماء بغداد مدراراً كأنها أنياب وحش يريد أن يطبق على أعظم حضارات التاريخ الإنساني، أين حفر حمورابي أول تشريع في تاريخ البشرية؟
أين كانت بابل أعجوبة الدنيا بحدائقها المعلقة؟
جلس العالم كله أمام شاشات التلفاز وقنوات صرف الأخبار متفرجاً على أعظم مجزرة في حق الإنسانية صارت قلوب الناس وضمائرهم متحجرة كجدران بابل جافة كجفاف الصحراء العراقية ساكنة كسكون دجلة والفرات أخد حاتم كغيره من العراقيين الشرفاء مكاناً للدفاع عن وطنه المنكوب في زمن الذل والخنوع، دافع وقاوم وجاهد بكل ما يستطيع أن يقدمه ليس دفاعاً عن ذلك النظام أو انتظارا لشكر أو عرفان منه، لكنه أحس أن بلده سيكون قطرة من فيض كأس تريد أمريكا للجميع أن يشرب منه.
مرت الأيام والليالي وحملت في طياتها الكثير بدأت العزائم تخور والنفوس تضعف حتى لم يبقى إلا القليل ممن فضلوا الموت على حياة الذل والخنوع سقطت بغداد “دار السلام” المدينة التي كانت في يوم من الأيام منارة الدنيا بينما كانت مدن الغرب تغرق في ظلام كابوس الفقروالجهل في تلك في تلك الأثناء كانت معركة الحواسم كما فضل أن يسميها ذلك النظام البائد تلفظ آخر أنفاسها فحاتم والبعض من رفاقه أحسوا أن هذه المعركة يجب أن تنتهي قبل أن يعيدوا إليها بريقاً وروحاً جديدة فلابد أن تتجدد الأنفاس تحسباً للمعركة الفاصلة أخد كل منهم وجهته إلى بيته انتظاراً لما سيكون في قابل الأيام.
سقطت بغداد وسقطت معها كل الأقنعة وتكشفت خيوط المؤامرة في لعبة الكبار كاشفة معها كل العورات نهب وسلب لتاريخ حضارة أعطت الكثيرللإرث الإنساني عبر عصوره الماضية ودروبه القادمة عرف الكبار كيف يديرون خيوط اللعبة جيداً فضربوا جداراً صلباً من الحراسة حول مبنى وزارة النفط العراقية في بغداد.
كيف لا؟ وهو الكنز الذي دفعوا في سبيله الكثير والكثير وهو الذي شغلهم وقض مضاجعهم بينما تركت ذاكرة أمة بأكملها للصوص الذاكرة وقطاع طرق بغداد العتيقة.
بعد أسبوع من الغزو الأمريكي نزل حاتم كغيره من العراقيين باحثاً عن الرزق كان ذلك أول يوم يخرج فيه بعد سقوط بغداد جال ببصره في أرجائها لقد هاله مارأه من مناظر وحشية برع في رسمها حقد صليبي دفين إتجاه كل ما ينبض بالحياة على هذه الأرض، أخد يتأملها كأنه يراها لأول مرة في حياته توقف هنيهة عند منظرأثاردهشته واستغرابه رأى طابوراً من الناس يقفون عند أحد الحواجز التي يقيمها الجيش الأمريكي عندها أحس بفيض جارف من الأسئلة يعتري دواخله العميقة..
أهذا ما يسمونه تحرير العراقيين؟
أهذه هي ديمقراطيتهم؟
أهذه هي حقوق الإنسان لديهم؟
وفجأة أحس بيد تربتُ على كتفه استدار مفزوعاً ليرى أمامه شخصاً لم يتوضح ملامحه في بادىء الأمر لكنه استدرك الموقف، كان يتسربل قميصاً بني اللون كستنائي الملمس وسروالاً أسود كلاسيكي الذوق، وحذاءً جلدياً يبدو أنه إيطالي الصنع بقامته الفارعة ولون بشرته السمراء المائلة إلى الحمرة وشعره الأسود الممشوط بعناية أشرق وجهه بإبتسامة عريضة تنم عن نشوة تغمره بلقاء رتَبته لهما يد الأقدارلقد تذكره أخيرا إنه زميله في الكتيبة الوسطى الضابط لؤي كنعان وبعد عناق طويل ينم عن شوق وحنين لأيام رفقة السلاح والتضحية عرض عليه أن يجلسا في أحد المقاهي وسط بغداد إنه مقهى الرشيد وهناك جلسا وكان لهما حديث الساعة..
لؤي: كيف حالك يارجل؟ لقد حسبتك قد صرت في عداد الشهداء
حاتم: أرى أن الموت أهون بكثير من حياة الذل التي وصلنا إليها
لؤي: لا تحزن لا شيء يبقى على حاله فدوام الحال من المحال، لكن كل شيء يتوقف على عزيمتنا وإرادتنا بالخلاص من هذا العدو الظالم وأعلم أنه ( لا يغير الله ماب قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ).
حاتم: وكيف السبيل إلى ذلك؟ ونحن الآن مشتتون إلى قبائل وطوائف في فسيفسائية عرف الاحتلال كيفية استغلالها وتوظيفها لخدمة أهدافه القذرة.
لؤي: ألم تسمع بأن هنالك جماعات مقاومة قد تشكلت وأنها بدأت بالنشاط منذ قدوم قوات الغزو لأرض العراق؟
حاتم: وكيف السبيل إلى الوصول إليها؟ فلم أعد احتمل البقاء مكتوف الأيدي أكثر من هذا فلا حياة بلا كرامة..
لؤي: هي حالياً تتكون من شبان متطوعين أتوا من بلدان عديدة وتعتمد على الكثير من أفراد الجيش النظامي سابقاً وعناصر ممن يسمون بفدائيي صدام، آمنوا أن العراق سوف يكون قطرة من فيض كأس وأنه سوف يكون قاعدة لضرب كل من يتطاول على أوامر أسياد العالم الجديد.
أما كيف السبيل إلى الوصول إليها؟ فأنا أذلك على إحدى تلك الجماعات فأنا أثق بشجاعتك وصدق نيتك لمواجهة هذا العدو الظالم الذي يترصد ببلدنا وأمتنا الشرور والآثام.
حاتم: هل لك أن تأخدني إليهم؟
قالها حاتم بلهفة وحرقة بدت في عينيه اللتين خضبتهما حمرة الغضب وبرقـتهما دموع الأمل في غد واعد
عندها ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه زميله لؤي والتفت صوبه مجيباً إياه بكل ثقة.
لؤي: حسناً سوف نتناول قهوتنا ونتوجه إلى بيت أحدهم.
ملأت علامات الاستفهام رأس حاتم فبدأ بأسئلة أشبه بالتحقيق ربما بقيت لسنوات خدمته في المعتقل ترسبات أثرت في نفسيته الثائرة على كل ما يراه إعوجاجاً وجب تقويمه..
حاتم: هل أنت منخرط في صفوفهم؟
لؤي: تستطيع أن تعتبرني مدير مركز التجنيد عندهم وبحكم عملي سابقاً اعتبر عيناً تسهر على كل صغيرة وكبيرة تجنباً لأي خطر محتمل ضدهم.
حاتم: هل كنت عميلاً سابقاً للاستخبارات العراقية؟
لؤي: أجل فقد عملت لمدة إثنتي عشرة سنة في جهاز مكافحة الجوسسة وها أنا الآن في جهاز التجنيد والاستعلام للمقاومة العراقية، فأنا لا أقدم لهم إلا من أثق بطيب نواياهم وصدق عزائمهم على الجهاد لدحر هؤلاء الفئران البيض فهم كفئران التجارب ترسل بهم دولهم وحكوماتهم ليختبروا أحدث ما توصلت إليه مختبراتهم الشيطانية التي تعمل على صنع كل ما له علاقة بتخريب وتدمير حياة البشر.
حاتم: ما اسم الجماعة التي تنوي أن تأخدني إليها؟
إسمها: ج ت إ
حاتم ( بتوجس ): إذن هي جماعة إسلامية!
لؤي: نعم فمعظم جماعات المقاومة تتخد من الدين ستاراً لها وهي بذلك تجتذب عطف وحماس الجماهير لها
حاتم: ما الذي تلمح له بكلامك هذا؟
لؤي: أريد أن أقول إن كل من يتكلم باسم الدين ليس شرطاً أن يكون مؤمناً بكل ما جاء فيه فهنالك مغالٍ ومتطرف ومتساهل ومعتدل وعلماني يريد أن يعطي لنفسه شرعية لا يكسبها إلا بغطاء روحاني.
صمت الإثنان للحظة تأمل ومراجعة لما وصلت إليه أحوال بلدهما أشعل لؤي كنعان سيجارة وأخذ منها نفساً عميقاً كأنه يريد أن يمتص به كامل غضبه وحنقه على الزمن الأمريكي.
كاتب جزائري | خاص موقع قلم رصاص