الرئيسية » رصاصة الرحمة » ما الذي يجمع ما الذي يفرق؟

ما الذي يجمع ما الذي يفرق؟

ربما كان من نافل القول، أن نعيد ونكرر الثقافة هي العامل الذي يقف وراء السلوك البشري، وبالنظر إلى أحوالنا الحالية، يتضح لنا وبكل شفافية أن الثقافة التي عرفناها تقف ضد الثقافة التي عرفناها أيضاً، وفي ترجمة واقعية لهذا الكلام الفانتازي، هو أن السلوك البشري الناتج عن ثقافة حتماً، هو ضد السلوك البشري الناتج عن ثقافة أيضاً، وإلا ما المبرر لكل هذا الويل الذي نراه ونعيشه؟

فإذا كانت الثقافة تمتثل وتنشد القيم العليا التي اكتشفتها البشرية من خير وحق وجمال، في كل حراكها المعرفي، فلماذا إذاً لا نرى منها إلا الدماء والدمار والخراب؟ خصوصاً أننا ندعي بإننا “مجتمعات” والتسالم المؤسس حاضر بين أيدينا، وما علينا إلا تجاوز بضع ثغرات “هوياتية” مقدور على تجاوزها ببساطة، نتيجة العراقة التي تتمتع بها ثقافاتنا، وموزاييكنا الساحر، وتنوعنا الخلاب، الذي يعد العالم بإزدهار المحبة والاحتضان والتآخي، دون خناجر أو سموم أو فخاخ، نعم فثقافاتنا تمتد عميقاً في التاريخ الجلي، وها نحن موجودون بقوتها، وسلوكنا المعتمد عليها يصول صولته في دمائنا، وقد لا تقوم من بعدها لنا قائمة، فالفناء واحد من خيارات السلوك المعتمد على ثقافة، ونحن بطبعنا وسلوكنا أحرار نرفض لإحد أن يختار لنا الفناء مصيراً، فنحن قادرون على اختياره لوحدنا دون مشقة أو عون أو هيمنة من أحد.

ولكن “وقد تأخرنا كثيرا” هل علينا أن نسأل أنفسنا هل نحن مجتمع؟ طالما أن المجتمع هو تكنولوجيا الإجتماع البشري، فهل نحن مجتمع؟.. الذي طالما تناولته المؤلفات والتنظيرات على أن وجوده بدهية من البدهيات، وهو حادث واقع ويناقش أيضا ..!.عند هذه النقطة المبدئية أو البدائية يجب أن نقف، وأن ننظر حولنا.. إذ كيف “لمجتمع” أن يتفتت ويتشظى بهذه الطريقة المتدنية حضارياً؟ كيف ” لمجتمع” يدعي امتلاك أكمل القيم الحضارية أن ينحدر الى هذا المستوى من السلوك، ألا يمتلك أي نوع من أنواع الثقافة؟

وجود المجتمع يشترط شرطاً أساسياً لا غنى عنه، ولا يمكن تأسيس المجتمع كضرورة حياتية لأعضائه إلا به، وهذا الشرط يبدو من المستحيل تحقيقه ليس عندنا فقط، بل بين جميع أنواع التجمعات البشرية في المعمورة، ومع بساطة هذا الشرط وسهولة تحقيقه سلوكياً على الأقل، استطاعت الكثير من البلدان تحقيقه كأحد شروط النهضة الأساسية، وهذا الشرط هو أن للمجتمع الواحد ثقافة واحدة، وهنا ولدى قراءتنا أو سماعنا لهذا الشرط، يمكننا تصور كل أنواع الموسيقى التصويرية المعبرة عن التوجس والخوف والخداع والغدر، كما يمكننا سماع صراخ “الهويات” وكأنها تقلى في سعير لانهاية له.

نعم إنه شرط معروف ومتداول وتعيش عليه مجتمعات موزاييكية المكونات، تعمل وترتقي وتنافس وتحصد، نعم للمجتمع الواحد ثقافة واحدة، ولكن أية ثقافة؟

طبعاً ليس للمبصر أي عذر فالأعمى رأى، أن الثقافة المقصودة، ليست اللغة ولا الدبكة ولا الشعر ولا الفلكلور ولا الأطعمة والمطابخ ولا الموسيقا والعمارة، نعم وصحيح أن كل ما ذكرت ثقافة، وربما تتوجها خصوصية ما، وتصلح جميعها للمشاركة في إغناء المجتمع ومنتوجاته، ولكنها ليست الثقافة التي يؤسس عليها المجتمع كتكنولوجيا للعيش البشري الجماعي، فالمقصود بالثقافة هنا هو الثقافة الحقوقية حصراً وتحديداً، المبنية على المساواة حصراً وتحديداً وعلانية أيضاً، فهذه الثقافة هي ما هو مقصود أن للمجتمع الواحد ثقافة واحدة، وإلا ما كان للأمم والمجتمعات تحقيق حادث المجتمع بإعتماد تعريفنا نحن للثقافة، فما أن تمتلك ثلة منا فرقة دبكة، أو تنجح في نسب أكلة التبولة اليها، حتى تعلن خصوصية هويتها وإنشقاقها عن المجموع حتى لو أدى ذلك الى فنائها، وربما فناء المجموع أيضاً.

المجتمع هو اجتماع مصالح أعضائه، وليس توحيد دبكاتهم ولغتهم وموسيقاهم وأديانهم، فهذه ليس لها فعل “ثقافي”خارج المجتمع المنتج، الذي يتعاقد أعضائه على التسالم حماية لمنتجاته التي تبقيه مستمراً. والمجتمع حادث إرادي، وليس بطبيعي أو وراثي، فهو يأتي بتحرير الإرادة وليس إنضوائها في فلكلوريات متوارثة، فهذه وإن كانت تأتي في سياق تجميل الحياة، ولكنها ليست موضوع تعاقد على مصلحة أو مصالح،  والمجتمع بتكنولوجياته، وحده القادر على تجاوز صراع الفلكلوريات القاتل، في سبيل مصلحته هو، ما يعني مصلحة أعضائه فرداً فردا على قدم المساواة.

والآن ..ألا ندهش، ونعض أصابعنا ندما من رؤية هذا المنظر المزري ؟ فالمجتمع فرصة… يأخذ بها اللبيب العارف، والأبله الذي يحتاج إلى مساعدة، أما منزلة مكتملي المعرفة، ـ ونحن منهم ـ على تنوع “ثقافاتنا” التي تثري تجمعنا البشري ، فقد حالت دون تحرير الإرادة وتأسيس المجتمع، فمن منا يستطيع أن يتصور أن الثقافة الواحدة هي مجرد قوانين وتشريعات تنظم العيش في هذه الواطئة “الدنيا” تحت سيف المساواة المسلط، ويترك تمايزه “العادل” وما يشير إليه من ملابس ومأكل ومشرب ومسكن، ليصبح مساويا لمن هب ودب ؟!.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن نجيب نصير

نجيب نصير
كاتب وسيناريست سوري عريق، كتب العديد من المسلسلات السورية التي لاقت إقبالاً كبيراً، تمتاز أعماله بطابع خاص، ومن أبرزها: نساء صغيرات، أسرار المدينة، الانتظار، تشيللو، فوضى، أيامنا الحلوة، وغيرها.

شاهد أيضاً

التفاهة المقنعة

للناظر إلى برامج المنوعات التلفزيونية العربية (الأنترتيمنت)، حق إبداء الرأي فيها، ومن أهم مظاهر هذا …