أضحكني أحد أصدقائي الذي لا يقرأ عادة بجديّة واهتمام، نظراً لطبيعة مزاجه، وعمله في التقنيات الإلكترونية، لكنه حين زارني في منزلي رأى بعض الكتب هنا وهناك، علّق باهتمام: “بدي كتاب يطلعني من الحالة النفسية السيئة يلي أنا فيها..؟” أجبته ببساطة: “الكتب لا تداوي يا صديقي، بل تزيد علة البني آدم لكثرة ما تكشف له من معرفة”…
بصراحة لم أكن أجرؤ على اقتراح عنوان كتاب لصديقي المتعب، ذلك أني أخاف أن تسوء حالته أكثر، بينما كنت أفكر برواية (1984) للروائي الإنكليزي جورج أورويل، تراجعت فوراً خوفاً على مشاعر صديقي الذي أفقدته الأحداث الراهنة منزله وشردت أسرته، ترى هل لازال يفكر جدياً أن في الكتاب حلولاً..؟
على الرغم من طرافة الموقف والبحث عن دواء حقيقي للنفوس التي أنهكها الانتظار، لكنني مؤمنٌ بجدوى أن تعرف وأن تتعرف وأن تَقرأ وتُقرأ، هذا اليقين المطلق بالحقيقة الكامنة وراء الكواليس لا يمكن أن تشرق دون أن تكون (الجديّة) مفصل بحثنا. لماذا لا يتباهى الناس بمخزونهم المعرفي والفكري، بدل أن يتباهوا بقوة عضلاتهم وعنفهم وأموالهم..؟ وما الذي أنتجته الأموال الآن، سوى مافيات اجتماعية استغلت أصحاب الحاجة، لتسحق مستقبلهم وتحولهم إلى وقود لصفقات كبيرة..
صديقي، لم يكن يدرك بسؤاله أي باب فتح على مخيلتي، فهو ترك أمام عيني نموذجاً أكثر شيوعاً في الشباب السوري، هؤلاء الذين يعملون من أجل السفر، الزواج، الذات، الأسرة.. إلخ، لا أقصد عكس ذلك إطلاقاً، لكن الانطلاق إلى الحياة بهذا المنطق الدوائي الملخص هنا بالكتب، يبدو دواءً مجرباً، وأكثر تماسكاً ووجوداً، وأكثر تأثيراً على نهج التفكير الشمولي الذي يضرب في تطرفه كل مفاصل الرؤية الاجتماعية لواقعنا المرير اليوم.
لم تعمل أي جهة ثقافية، على مشروع جعل الكتب دواءً للناس منذ سنوات، بل كانت مزاجية الطباعة لدى الهيئة السورية للكتاب وسواها من مؤسسات الثقافة الرسمية أو حتى دور النشر الخاصة، خاضعة لذائقة محددة معينة لا تقبل أي صوت جديد إلا ماندر، حتى لو تعثرت الخطوات الأولى، تجد ردّات الفعل عنيفة على المحاولات الجديدة في نشر كتاب ما، إذاً نحن أمام ركام هائل من الكتب التي بحاجة لتصنيف وتوزيع على مراحل عمرية اجتماعية لتصل إلى الجميع، هل نظمت وزارة الثقافة ذلك بالتعاون مع دور النشر؟ هل بحثت عن حاجة دور النشر لدورها كمؤسسة ضخمة تعنى بـسفير الفكر.. والتاريخ والحضارة والإنسان “الكتاب”؟ أتمنى لو تطلعنا الوزارة أو غيرها من المؤسسات الثقافية السورية على خطط نفذت على نحو تشجيع القراءة دون رقابات..!
ربما، احتكار هؤلاء الموجودين في أماكن صناعة قرارات الدعم الثقافي للكتب ونشرها، مطابع مؤسساتهم والأموال العامة، لنشر ترهات مقالاتهم ومحاولاتهم الهشة في الكتابة الأدبية، الموضوع هنا متروك للنقد لاحقاً، لكن، لماذا يتسلطون على أموال الشعب كي يلتصقوا بالكراسي لعقود من الزمن دون أن يضيفوا للمشهد البحثي الثقافي في القراءة أية إضافة تذكر؟ العمل بالنيات “الطيبة” لا يصنع ثقافة ترمم هذا الخراب، ومن يعتقد أن اللوم على الناس لأنها لاتقرأ فقط، سيكون مخطئاً، اللوم الأكبر على غياب البرامج الذكية في جذب الناس إلى الكتاب. يوماً ما كانت الكتب تغيّر حضارات وتواريخ، وكنت تعيد ترتيب الأحداث وتجعل الحقائق بالمتناول في أي وقت ولو بعد آلاف السنين، لكن، اليوم لا تجد للكتاب مكانة تذكر إلا عند قلة قليلة من الناس، ولعلهم لا يعتبرونه دواءً، بل سبباً من أسباب الحياة والتمتع بالقراءة، كطقس، كعمل، كمعرفة، كحب..
صديقي، سألني بفطرية الباحث عن دواء لمعالجة التعب، حاولت أن أجيب عن بعض ما يشغلني في الأدوية “الثقافية” التي نحتاج لنشرها بين الناس. على الرغم من عدم توفر عرّابين لهذه المهنة، ولا حتى رخص نشر الأدوية، لكن صديقي اختار كتاب “تصفية استعمار العقل” لنغوجى واثيونغو، ومن ثم مضى!
مدير التحرير