الرئيسية » رصاص ناعم » الحمدلله..مات شخص آخر!

الحمدلله..مات شخص آخر!

مروة جردي  |  مروة جردي - موقع قلم رصاص

تنظر إليه وهو يقرأ رواية  تركية بعنوان “الثلج الحار” للمرة الألف، كان جالساً بجوار نافذة منزلهم في الطابق الثالث، وقد فتحها كي يرى الكلمات بوضوح.

قالت لنفسها: لماذا يجهد عيناه، ولا يقبل بوضع نظارات طبية، هل السبب يعود إلى رفضه الاعتراف بتقدمه بالسن؟، أم أنه مازال يرغب بالعودة إلى صفوف الجيش وحمل السلاح؟ وشعر بأن وضع النظارات سيمنعه من ذلك خاصة مع اختراع فكرة اللجان الشعبية التي وسعت من آماله بالعودة .

لم تكن تريد إجابات عن أسئلتها، ولكنها لا تجد شيئاً آخر تشغل نفسها به، فالكهرباء مقطوعة والأولاد بالمدرسة، وهو غارق في قراءاته، فكرت أنه مازال يتمتع بوسامة ملفتة فلوجهه تقاسيم متناسقة، وما أن يبتسم حتى يقع أيا كان في غرامه، لا يبدو أنه قطع الأربعين عاماً، وذلك يعود لروحه المرحة.

تساءلت متى أحبته ؟ ضحكت بصوت خافت ..نعم تذكرت كان ذلك عندما خرجت مدرستنا بمسيرة في ذكرى ثورة الثامن من آذار، وكنت في الصف الأول الثانوي آنذاك، كنا نصرخ ونغني عندما مررنا من أمام منزله، كان يدرس على الشرفة تحضيراً لامتحان الشهادة الثانوية وأول ما رفعت رأسي هاتفة بإحدى الشعارات التي لم أعد أذكرها وجدته يحدق بي مراقباً تصرفاتي الصبيانية “أوه كم خجلت عندها”، خاصة أنه تربطني به صلة عائلية بعيدة، غرقت في تلك اللحظة بذكريات الماضي، وإذ بصوته يعيدها إلى الواقع :

  • رائدة ! بماذا كنت شاردة الذهن ؟
  • ما الذي تريده؟
  • سأذهب للمشي قليلاً هل تريدين شيئا لأجلبه لك في طريق عودتي ؟
  • لا لكن لاتبتعد كثيراً، ولا تتأخر الأولاد لا يتناولون الطعام من دونك.
  • حسناً.
  • ارتد معطفك فالبرد قارص.
  • حسناً حسناً.

تخاف عليه كلما شرع بمغادرة المنزل فالأوضاع الأمنية لم تعد كالسابق، الجماعات الإسلامية المتشددة تسيطر على مناطق كثيرة، وقد شرعوا باستهداف الشخصيات العسكرية العاملة منها والمتقاعدة  لمجرد انتمائهم للجيش النظامي، فكرت “ما زال صغيراً كيف أصدروا قراراً بتسريحه مع مجموعة من الضباط الآخرين ! فقط لأنه شريف لم يستطع مجاراتهم في سرقاتهم ولا يرضى الذل، لم يكن ليستطيع تحمل عبء النجوم على كتفيه عندها.

وصلت الدولة إلى حد من الفساد لدرجة فقدت هيبتها معها، فأي سلطة تستمد احترامها وهيبتها من الحالة المعيشية لعمالها وفلاحيها وجنودها وليس تجارها ومحتكريها، قد يكون ما يحدث اليوم في سورية نصرة لكثيرين من أمثال زوجها ، صمتت ثم تعوذت بالله، مؤنبة نفسها على هذه الأفكار التي تواردها  لا طبعا ما أفكر به غير صحيح فلم يمت إلا كل فقير يحب وطنه منذ بداية الأزمة ،وقررت ألا تفكر بالأمر بعد الآن.

فذهبت باتجاه المطبخ لتحضير الطعام، وكل فينة وأخرى تنظر من نافذة المطبخ، ترقب عودة أطفالها أو زوجها، وأثناء انهماكها في العمل تسمع صوت رصاص مدوي لم تكن الصورة واضحة من النافذة ،فركضت باتجاه الشرفة وهي تتعوذ بالله، فترى جمهرة من الناس على رصيف الطريق السريع المقابل لمنزلها ويصرخ أحدهم “لا حول ولا قوة إلا بالله”، وسيارة للجيش تصل للمكان فيبتعد بعض المجتمعين فتتراءى لها يد مضرجة بالدم لشخص ممدد على الأرض دون حراك بدأ المشهد يزداد وضوحاً.

  • إنه يرتدي سروالاً رياضياً مع معطف عسكري. قالت ذلك وهي تشعر بصوتها يغوص في أعماقها متابعة ونفس الحجم والطول .

لم تعد قدماها تحملاها فهي لا تدري سالم أي معطف ارتدى ،تحاول الصراخ إلا أن كلماتها  تختنق قبل قولها أخذت تستند إلى جدران المنزل حتى وصلت إلى غرفة نومها، دموعها تصنع غشاوة تمنعها من الرؤية، تبعثر الملابس على السرير كمن يريد صنع حفرة فيه بحثاً عن معطف زوجها الخاكي …… هوت على الأرض وأخذت تصرخ :

“الحمد لله …..الحمد لله ليس هو ليس هو” .

بكت كما لم تفعل من قبل مفكرة ما الذي أوصلنا إلى زمن نحمد الله لموت إنسان لمجرد كونه لا يخصنا، دون الاهتمام بكونه يخص أسرة أخرى، دون الاكتراث كون امرأة مسكينة ما قد ترملت، وأطفال مساكين قد تيتموا، ولكن ما ذنبي ؟ ما ذنب غيري ؟ ما الخطيئة التي ارتكبناها في معركة لم يأخذ أحد رأينا في خوضها، وأخذت تجهش بالبكاء أكثر فهي الآن لا تبكي زوجها أو ضحايا التفجير الأخير هي تبكي وطناً هُتكت سيادته، وشجر نحرت أوراقه، وتراباً دنس بالبارود، تذرف الآن دمعاً على أشياء ماتت على هذه الأرض متناسين أن الوطن ليس مجرد مجموعة من البشر يتقاسمون مساحة جغرافية معينة، بل هو ما قالت عنه فيروز “يا بيوت اللي بحبونا يا تراب اللي سبقونا “.

إذا هو بيت جيراننا الذي تهدم بفعل قذيفة أو صاروخ، وقبور أسلافنا التي نبشوها، وآثار حضارة صنعت ما نحن عليه الآن، فالوطن ببساطة الحجر والإنسان …الدم والرخام … هو ياسمينة في دمشق وحورية في الساحل وشجر البطم بالجنوب ونهر الفرات بالشمال، وليس مجرد فكرة، بل حياة كاملة وقصص وحوادث وتاريخ محفور بذاكرة هذا المكان.

دمشق | خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …