عادل العدوي |
قصة عرافة البحر
لم يتلون البحر بالخضار الذي اعتاد عليه كل مساء.. سكن حزينًا، حفت الصخور عند نهاياته وتوقفت عن تسجيل اندهاشات العاشقين الذين تعودوا أن يشهد البحر حكاياتهم.
يتوقف طويلاً هذا الظلام على جسد البحر، ويتيح للحالمين مواصلة الحلم، فيصبحون قادرين على غزو النهارات، واقتحام ساعات الترهل المنمق داخل الحوانيت.
العجوز الشمطاء تفترش رمالاً ناعمة من أثر تمسًّح الأمواج بها.. تفك صرة المنديل، وتنظم أحجارها فوق الرمال التي تحرص على تنقيتها من أية آثار للطحالب.. تضرب الودع وتغني: “أبيَّن زِين.. أبيَّن”.
الفتى الذي يمر بالبحر مصادفة تجذبه غواية الكشف، وتخوض قدماه في شرك التشهي.. والعجوز مستمرة في قراءة عربة مسرعة باتجاه الشاطئ.. يمكنها الاستغراق في تفاصيل بندول الساعة عبر ومض النجوم وتبدل حركاتها.. إنها بالتأكيد تعرف النهاية المحتومة، وتجيد العزف على إيقاع البحر.. حين توقن من تسرب سحر الحكي في عيني الفتى تودع الشاطئ معلنة قدرتها على النظر عبر المدى بصوتها الشبق: “أوشوش الودع”، وترمي بشباكها أمام البحر الذي يساعدها في اصطياد العاشقين.
ثمة تواطؤ بين البحر والعرافة على جذب الحالمين، ولا توجد مبررات مقبولة لتسرب أقدامهم في الرمال الناعمة، ولا اللافتات السوداء المنتصبة كشاهد أنبأتهم بغريق الصباح.. وليس سوى موسيقى خافتة تزحف من بين الهدير: “أبين زين.. أبين.. وأوشوش الودع”.
الفتى الذي مر بالبحر مصادفة كان لا يصادق الأشجار، ولا تعود محادثة شارات المرور.. كان سفره خالياً من العاشقات، ولا يحفل بتمدد الأرامل على امتداد الشاطئ.
العرافة تتصيد المرتعبين من تأمل النجوم، هؤلاء الذين لا يملكون تفسيرًا واضحًا عن مجيئهم ككل صباح إلى البحر غير آثار أقدامهم التي يتركونها متناثرة ليبتلعها الموج في جوفه، ثم يختفي سريعًا علهم يتخففون من عتامة الجسد.
قصة البحر والفتاة المجذوبة
النوافذ تترقب البحر في انتظار الذي يعود؛ الذي ذهب يتعرف البحر.. دائماً يسحب أرواحنا يجتذبنا كساحر طيب يمكنه بسهولة تحقيق الأحلام التي لا نستطيع رؤيتها بوضوح.. الفتاة المجذوبة تتسرب نحو الشاطئ لا توقفها السيارات الفخمة التي تعكر صفو البحر.. العيون العالقة خلف النوافذ تتابع خطى الفتاة المجذوبة وهي تخترق الأسفلت اللامع في خط مستقيم.. دائماً تخطئها تلك السيارات.. يبدو أنها لا تعي اقتحام العجلات للأسفلت.. الضوء الأصفر المنبعث من أعمدة إنارة الطريق يختلط بضباب البحر.. رائحة اليود تجعل صدر الفتاة يتسع للقارة.. إنها ذاهبة لاحتضان الأمواج التي لا تهدأ ولا تتوقف عن محاولات الخروج وتمتد وتنحصر لاصطياد العشاق الذين يجدون السلوى في امتطائها.
ما زالت العيون العالقة خلف النوافذ تترقب المشهد وتتقي العجلات الغاشمة..الذي ذهب يتعرف البحر حمل حقيبة أسفاره وقبَّل ظهر السيدة العجوز ورحل.. السيدة العجوز لم تبكِ وقت رحيله بل وقفت عند الصخرة التي اعتادت أن تدون عليها أسماء الذين ذهبوا في أحضان البحر..
للبحر قرابين يجب على الذين أرادوا المرور أن يقدموها.. هل قدم الذين أكلهم الملح قرابينهم؟! ألا يكفي أنهم فقدوا بطاقات هويتهم.. إنهم لا يطيقون الوقوف فوق الأرض.. ولا رائحة النيل أفلحت في استبقائهم.. وقد رحل على عجل هذا الذي ذهب يتعرف البحر.. لقد ترك الفتاة المجذوبة تمدد ساقيها فوق الرمال في انتظار الذي يعود . وتغني:
” في البحر سمكة..الدفء الذي يخرج من أنفاسها يحمِّل الأمواج بشفرة عينيها.. الفتاة تدخل البحر.. تتيح له أن يتحسس جسدها في هدوء.
ها هو البحر يهدهد أهداب الفتاة.. يقرأ الخارطة ويترك رغاءه فوق صحراء الجسد.
” في البر سمكة.. ما زالت في انتظار الذي يعود .
” ع الشط واقف..
النوافذ/ السيارات/ الإسفلت/ الضوء الأخضر..
الفتاة تشرئب للوصول إلى البحر بينما السيدة العجوز عند الصخرة مشغولة بتدوين اسم الذي ذهب يتعرف البحر.
أديب وناقد مصري | خاص موقع قلم رصاص