الرئيسية » رصاص حي » في «قهوة الكلام» شاعرة توجعها الحياة

في «قهوة الكلام» شاعرة توجعها الحياة

إبراهيم حسو  |  

في آخر إصدار للشاعرة السورية المغتربة فاتن حمودي «قهوة الكلام» ـ دار كوكب 2015 ـ نعثر على جغرافية شعرية مشكّلة التضاريس والمناخات, جغرافية المرارة السورية التي يبدو أنها ستمتد الى أجيال مقبلة وستعيش ركامات الحرب القذرة التي سيختلط فيها الحياة مع الموت والأمل مع الألم في صور يلتقطها دعاة الحرب والقتل, إن ما تبثه فاتن حمودي هو مشاهد خراب أصيل لكل ما تبقى من الإنسان وأقداره وأسباب كينونته, فمعايشة المكان بهلاكه وظلاميته ما هي إلا تكرير للألم وصناعته وترميمه, فكل جملة هي صورة بحد ذاتها وكل صورة هي حياة كاملة مستمرة بعفويتها وطزاجتها,  تحضر الذاكرة هنا وتغيب هناك مخلفة لغط شعري وبريق لغوي يفجّر النص ويضيئه رغم قتامة المشهد ورتابة الحياة المتصورة, فالشغف بالمكان «الشام» الحاضرة المؤبدة في كل نصوص حمودي الأخيرة (في الدوريات الخليجية وموقع ألف الشعري و….) وصور واشتهاؤها إلى  شجر الربوة والمقاهي الشعبية الموزعة على الطرقات الضيقة ورحلات العناق إلى نهر بردى وخطوات الأطفال الأولى على الضفاف الموزعة في كل الجهات والرغبات المشتهاة لصبيان الحي وفصول العصافير المجنونة التي تبحث عن هواء آخر وشمس أخرى وأشجار أكثر خضرة, برودة الجبال الدافئة, كل ذلك بدفقة واحدة في لوحات شعرية ونصوص قصيرة وفي جدال تراجيدي مع المخيلة المتنقلة بين حركة العين السينمائية وصمت الأشياء المجاورة, الأشياء التي هي أقل ما يمكن الاحتفاظ بها كمنّشط للذاكرة ومداواة للبقاء, إلا أن الشاعرة تتخطى ذاكرتها «السورية» رغم الحياة التقليدية في شبه صحراء «الامارات المتحدة» حيث الحياتين وجهًا لوجه, حياة سارية قاتمة ومشعة في نفس الوقت وحياة واقفة ساكنة كالعتمة الابدية وراء سجن متحرك:

 “أبكي عليكِ شام

أَصْهُلُ

أركضُ… أركضُ في كلّ الجهاتِ

مدينةٌ… مدينةٌ محاصرةٌ أنا

لقد مرّ غزالٌ من هنا

أيقظَ الشامَ

أيقظَ عصافيرَ الدّهشةِ

ومضى… ومضى تاركاً المدنَ مزدحمةً بالفراغْ”

داخل نص «قهوة الكلام» حرية سالكة على أفق لا يرى ولا يلمس, فكل مقطع اسطورة شعرية بكلمة أو كلمتين, والألم ليس له حدود والحزن لا يستوجب حرية البوح, الحزن عند فاتن هو كائن يزهر دونما سقاية, يولد دونما الحاجة الى نطفة, يكبر حزن الشاعرة كلما توغلنا في نصوصها الطويلة إلى درجة أنها تستطيع ابكائنا, مع اتساع حزنها تتسع لغتها وتتشظى مساحتها لتغطي ما تبقى من العوالم الشعرية المختبئة في البلاغة الهادئة, بلاغة تحمل حكاية ويوميات امرأة تركت وطنها هناك, وطن بلا موضع بلا محيط بلا تاريخ يدوّن المأساة بأبهى صورها, فالصورة هنا تعني أن الوطن تبعثر ولن تكون هناك حياة مستجدة وأن وجدت فمقصوصة ومبددة:

“حين كنت طفلةً

الورد الجوري لأمّي

الياسمين لمعلّمتي

حين كنت طفلةً

وقفت وراء السياج وحلمت بأن أكبر

مثل هذا الحصان”

توضح صاحبة «قهوة الكلام» في قصيدتها التي أخذت صفحات المجموعة «شناشيل» وهي مقاطع قصيرة وصغيرة مهندسة بشكل لغوي ملفت, توضح السياقات والتفاصيل لامرأة أربعينية تشغلها الحقيقة, حقيقة كونها امرأة بعيدة أو مبعدة, وحقيقة وجودها خارج أو داخل وطن يتقوض وهي تتفرج كمثيلاتها دون أن تحرك قصيدة, هي تسأل أسئلة البحث عن جمالية الحقيقة دون ضوابط لغوية واستعارات فضفاضة وطرق اقناع مستهلكة, فليس في النصوص كلها انصياع تام لحساسية النثر أو حساسية الوقائع الشعرية التي أصبحت الشغل الشاغل لكثير من شعراء قصيدة النثر في سورية وخارجها, نص فاتن حمودي يهتم بالتوثيق الصوري للكلمة فلا تعطي دوراً عظيماً للبلاغة إلا عندما تخف وطأة  الصورة وتتلاشى عبر تقنيات السرد وانفلاته :

“حُلمي أَطلقَ سِاجي

لكنّ أخوتي شردتهم الحروبُ

أُمّي لم تَعُد في البيت

وبيتي لمْ يَعُد بيتي

وحدها الضفادعُ تَشدو

فَمَنْ يَحرسُ الغياب؟”

يبقى نص «قهوة الكلام» حافلاً بتقنيات شعورية مكثفة ومضغوطة إلى درجة الغليان الانفعالي ومحملاً بحرارة أنثى فاضت أحاسيسها بدفعات متناوبة, أحاسيس امرأة جابت فسحات شعرية متنوعة وخاضت خبرات نثرية وسردية عبر كتابتها اليومية في الصحف الخليجية وعبر كتابتها لقصص الأطفال بالإضافة لارتباطها الشراكية مع الشاعر حسان عزت في جمهرة أسروية رائعة تحمل قلبين منتفخين بحب دمشق.

يذكر أن فاتن حمودي كاتبة وصحافية سورية، عملت في عدد من الصحف الإماراتية، منها: «الإمارات اليوم» وجريدة «الاتحاد» ومجلة «المنارة ». تنشر في القدس العربي مجلة «نزوى»، و«الإمارات الثقافية»، و«جريدة الفنون» الكويت، كما كتبت في التراث الإماراتي. كتبت سيناريو لـ ( 13 ) فيلماً وثائقياً عن تاريخ أبوظبي بعنوان «أبوظبي قصة بناء »، و (13) فيلماً وثائقياً رصدت من خلالها الحركة التشكيلية الإماراتية بعنوان «فنان من الإمارات»، عرضت على قناة أبوظبي. أعدّت مجموعة من الأفلام الوثائقية،  منها: «الفرسان» «العوادي» و«عساكم ذخر»، وكتبت سيناريو فيلم عن «مهرجان سلطان بن زايد التراثي»2015.

شاعر وناقد سوري  |  خاص موقع قلم رصاص

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

هل زعزعت وسائل التواصل مكانة الكتاب المقروء أم عززتها؟

صارت التكنولوجيا الجديدة ووسائل التواصل، تيك توك، يوتيوب، فيس بوك وغيرها مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار …