صار مملاً ومكروراً ومعلوكاً أن نعلق قائلين: إنه في كل هذا الويل الذي نعيشه.. تترك الناس أهوالها وتلاحق شأناً تفصيلياً لا معنى حقيقياً له، في مقارنة أصبحت سخيفة ومستعملة إلى حد الإهتراء.
لا يعنيني البوركيني شكلاً ولا مضموناً، ولا يهمني إذا وافقت عليه ناسا الأميركية، أو رفضته كلية الرياضيات في موسكو، كما أنني لست معنياً بكمية الشمس المتاحة في أوروبا وغيرها ما يشكل بيئة اجتماعية لألبسة البحر على أنواعها، كما لن أدخل مقارنة بين أجساد السابحين والسابحات، وأيها يستحق الإشادة والمديح وأيها يستحق التأفف والقديح، كما أنني لست مبتهجاً بهذا الانتصار الباهر على قوى الضلال، ولست “زعلاناً” من القوى التي تعتبر البوركيني حراماً حتى بعد “الاعتراف” به من بعض المعتدلين، ما يعنيني حقاً هو تلك المعركة الواهية التي حصلت وانتصرت فيها قوى الحق (التراثي) على أصحاب الحق ( الدنيوي)، فهي في المقام الأول معركة مزيفة، وفي المقام الثاني أن لا معنى أو شرف أو مصلحة يمكن أن يتحقق منها، وهذا في حال كانت حقيقية. ولكن وبما أن الحال على حاله، وخصوصاً تلك الحملة المكررة عند منع أو استنكار، أي شيء.. أي شيء… يمكن نسبه “حقيقة أو تهويماً” إلى تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا في “الغرب”، تقوم الدنيا ولا تقعد دفاعاً وتظلماً ونقيقاً وشكوى من الديمقراطية المزيفة ومن المكيالين إلخ، أو.. الابتهاج بالانتصار والظفر بحق أساسي من حقوق الإنسان الغائبة عن أذهان “الغرب”! وحاضرة بوضوح مُبهر عند “العرب”.
بين هذا الحال وذاك، تقبع مشكلة لا يمكن توصيفها بأقل من وجودية، فهذه الذات المتضخمة تتصاغر أمام أسئلتها، وتتملص من الإجابة عنها متذرعة باستثنائية وجودها، هذا الاستثناء الذي يجعل منها ذات هيولية مائعة متحولة تأخذ شكل الضغط المطبق عليها، ومن هنا ومن المشاركة العرمرية في هذا النقع “حرب البوركيني” المتمثل في محاولة تكفير الآخر في ديمقراطيته وحريته، عبر مشاركة جميع النخب “العربية” من علمانية وتراثية في هذه الموقعة التي تمخضت عن فوز مولانا البوركيني على أعدائه البكينيين! فهل لنا أن نسائل أنفسنا بضع أسئلة قد تكون ذات جدوى في بضع أسئلة قد تكون ذات جدوى في وجودنا ومعناه، أسئلة بسيطة لا تذهب إلى أعماق التنظير ولا الى أحوال علم الاجتماع الممنوع عملياً في ديارنا؟
ـ مع انتصار البيوركيني الذي هو نفسه لم يأخذ إجماعاً كبيراً، هل نستطيع أن نسأل ما التطور الذي سيلحق بالبيوركيني كرداء بحر؟ ما هي التطلعات القادمة في عالم هكذا أزياء؟ فإذا كان البيوركيني رمز للحشمة الكافية مبدئياً عند البعض، فهو مرفوض من البعض الآخر الذي يعتبره غير كاف، فما الحل لهذه المعضلة؟ – وهنا لا نتكلم عن رافضي البوركيني- فهل البيوركيني خطوة تكتيكية على طريق؟ ونجاح تقنين البيوركيني يعد بنجاحات قادمة؟ ما هوالرداء / المعركة التالية؟
ـ مسألة أخرى تبدو واقعية كسؤال: وهي هل البوركيني هو شعار اجتماعي سياسي أم مجرد حرية شخصية، بمعنى هل هو لباس البحر “المحتشم ” فقط، أم هو لباس البحر الصحيح؟ فإذا كان البيوركيني هو اللباس الصحيح والمناسب للمجتمع، ألا يتطلب هذا إجراءات ونضالات مستقبلية لتعميمه للجميع على الشواطئ والمسابح؟ إذ لا يصح إعطاء مصلحة اجتماعية كهذه لجزء من الشعب فقط!
ـ وعلى التوازي علينا لحظ كم ونوع المناضلين (خصوصاً من العلمانيين الذين لن يتم احترامهم من قبل التراثويين مهما فعلوا) حيث ناقشوا الموضوع على أساس أقلية وأقليات وحقوقها، كتنويع أو تمويه أو حتى سبق، على الخطاب الاحتشامي التراثوي، وباب الأقلية والأكثريه هذا.. إذا شرع وتم الدخول فيه، لسوف ينفتح على مسارب ومفترقات، ليس لها أول من آخر، فمفهوم الأكثرية والأقلية هو مفهوم سياسي برلماني مجتمعي، وتوسيعه بهذه الطريقة الهوياتية المبتسرة، يجعل من الآخرين كل الآخرين أعداء، كما يجعل من المتعرين (مثلاً) أقلية لها نفس حقوق البوركينيين بالتواجد في أماكن السباحة العامة، فهل يستطيع مؤيدو البوركيني تحمل ذلك (خصوصا العلمانيون)، أم ستصدح حناجرهم بالشكوى والنقيق؟
يبدو واضحاً أن تغيير أو تمويه موضوع “المعركة” من تفضيل “الاحتشام” ورفض “الخلاعة”، والجهاد على مسرب آخر هو الحقوق والواجبات المدنية غير المعترف بها أساساً، ما هو إلا خداع وفهلوية وتكييف للقوانين التي ارتضاها المجتمع لنفسه، فالموضوع واضح تماماً، لماذا إذا مغمغته وتحويله إلى مسألة حداثية فيما هو مسألة تقاليدية على الرغم من خطورة نتائج هذه المغمغة على بنية المجتمع المراد الانتماء إليه؟!
ـ في نظرة عامة الى جميع من شارك في “الموقعة” ، نلحظ مسألتين، الأولى: إنهم في بلدانهم الأصلية لا يجرؤون على المطالبة بهكذا نوع من “الحقوق” أو غيرها بحجة أن الأكثرية (بمقاييس حكومية طبعاً) تريد ذلك، وفي مقدورهم شتم القوانين الفرنسية دون حسيب أو مسؤولية فهم يعتبرون أنفسهم يقولون كلمة حق في وجه حاكم ظالم. الثانية : هي أن لجميع هؤلاء، أقليات بين ظهرانيهم ولها حقوق أهم وأعمق بكثير من حق الاحتشام البيوركيني في فرنسا، ولكنهم يحجمون عن تأييدها لأسباب لها علاقة بقناعاتهم (راجعوا قناعاتهم وأرائهم فيما يخص النقاب أو البرقع)، ولنأخذ مثالاً واحداً بسيطاً عن بناء الكنائس في مصر أم الدنيا، وهي دولة منذ محمد علي، هذا إذا لم نحكي عن مشكلة البهائيين وغيرهم وهذا مثال بسيط كما أنه معمم على المساحة بين المحيط والخليج، هاتين المسألتين (على الأقل) تظهر ذلك الفصام الثقافي الذي يحكمنا ويتحكم بنا، والثقافة كما يعلم الجميع هي ما وراء السلوك البشري من السلوك الخيري، وحتى السلوك الإرهابي.
ـ من الواضح أن هؤلاء وتحت شعار الهوية الوهمي، يؤسسون لغيتو، والغيتو في المعنى الاجتماعي هو قنبلة جاهزة للانفجار مرمية في حضن المجتمع، والمشكلة هي المطالبة بتشريع هذا الغيتو بناء على أدلة احتيالية أو هي من خارج الموضوع أساساً يتدبرها “الواعون” أو النخبة ببجاحة عز نظيرها، كما أنه يشترط على المجتمعات عدم استخدام أو تعميمه غيتو مقابل (وهو وهمي) بالتأسي أو بالقياس على حالات التمايز المطلوبة، والغيتو في حالة المهاجرين (بغض النظر عن سبب هجرتهم) يعمل على تكرار صنع حالة اجتماعية مشابهة لتلك التي هجروها….أو التي أدت الى هجرتهم، من دون إدراك منهم أن الأداءات المجتمعية هي أداءات ثقافية استراتيجية قد تنفجر في وجوه أصحابها. أوليس هناك من خطورة واضحة بسبب التأسيس لغيتويات تعتمد تنظيرياعلى هكذا غزوات؟
ـ لا ننسى هنا، قيم احترام المرأة من الباب الذكوري تحديداً، حيث تظهر عقد الاضطراب والفصام الجنسي واضحة للعيان، ليتبادر السؤال إلى الذهن: هل يحترم الرجل المرتدية البيكيني كاحترامه للتي تلبس البوركيني؟ وينبع هذا السؤال من الحجة التي يدعيها هؤلاء التي تعتمد
كلياً على المساواة في الاحترام وغيره، لأن الفارق تصنعه الحرية، فإذا كانت حرية لبس البوركيني محترمة فهل نجد نفس الاحترام لحرية لبس البيكيني أو حتى التعري التام؟ أم أن عنصرية ثقافية تقسط الحرية على أهوائها؟ ليقع هؤلاء عند حائط نحن شعب الله المختار يحق لنا ما لا يحق لغيرنا؟
ـ ربما وبناء على البنية المعرفية “المتماسكة”!! التي ناصرت البوركيني على أعدائه الغربيين، قد يظهر من يطالب أن الرداء المناسب لرجال الإطفاء هو الجلباب (الغلابية أو الدشداشة)، ومن حق أهل الأسكيمو أن يطالبوا بلباسهم التقليدي كثياب للأطباء في غرف العمليات الجراحية، فهذا حق قانوني وضعه المشرع الدنيوي، فكيف إذا قارناه مع غيره من الشرائع السماوية؟!! وهنا لا ننس الشق الاقتصادي من الموضوع، فالبوركيني سيصبح في عالم الأزياء والموضات والماركات الشهيرة، حيث يمكن استخدام العقائد والهويات مجاناً في استثمارات طائلة. لا تبدو المسألة نظرية إلى هذا الحد، وبغض النظر إذا جاء المهاجرون بدعوة من مجتمعاتهم الجديدة التي اختاروا أن يعيشوا فيها، أم لجأوا إليها أم قادتهم المصادفات، وبغض النظر عن البيئة المناخية التي تحتاج فيها الأجساد الى الشمس وربما الفودكا وشحم الخنزير، إلا أنه هناك ما هو موجود على الأرض كالإسلاموفوبيا، ولا أظن “الإسلاموفوبيا” هي عطب جيني في صبغيات أهل الغرب، بل هي صدمة ثقافة مذهلة لهم، فإذا ارتضى الفرنسيون العلمانية المتطرفة تكنولوجيا لهم، فمن يحق له نصحهم أو إجبارهم على تغييرها أو تعديلها أو تلطيفها؟ لا أحد نظرياً إلا من يرى بنفسه أهلية لممارسة ثقافة الغزو، فالإسلاموفوبيا تتغذى واقعياً على هكذا مصادمات وترى فيها حصاراً تدريجياً يستحق العداء، خصوصاً مع فورة الإعلام والإعلان، وعندما تتم المطالبة بحسن الضيافة، فعلى الضيف أيضاً أن يتحلى باللياقة على الأقل (مثالاً تبسيطياً جداً) بحيث يمكن سحب “ذرائع” الإسلاموفوبيا المدعاة والمشتهاة أيضاً (فهي ضرورية لذهنية الغزو)، في الواقع يبدو انتصار البيوركيني وكأنه هزيمة، لأنه سوف يدعم مخرجات الإسلاموفوبيا ويؤكدها. إنها مجرد أسئلة وربما كان هناك الكثير غيرها، والإجابة عليها موجودة في الواقع وتمارس تحت ضوء الشمس، كما يتم التهرب من مسؤولياتها تحت ضوء الشمس أيضاً… فهل نستطيع تخيل إجابات منطقية عليها؟
مجلة قلم رصاص الثقافية