عامر العبود |
هناك آلية عمل واضحة للبنادق وللأسلحة النارية عموماً، حيث تتألف الذخائر من قسمين، القاذف المحشو بالبارود، والمقذوف الذي هو الجزء القاتل، تضرب الإبرة (الكبسونة) أسفل الحشوة؛ لتُحدث انفجاراً يجبر المقذوف على الانطلاق باتجاه ضحيته، لكن هناك ما يقتل أكثر من الرصاص والقذائف، وبطريقة غامضة، دون بارود، يتسلل خلسة إلى الأدمغة، ويحتل محله من الشعور واللاشعور، فيكون فتاكاً أكثر من أي سلاح عرفته البشرية. ولن يكون الموت رحيماً!
شاشات التلفزة العربية تنقل -وبالتفصيل- نزيف الجرحى واحتراق الجثث وتقطيع الأوصال وتناثر الأشلاء، عن رغبة ربما بزرع بذور عنيفة في النفوس، وتحريض أهل القتيل لقتل أهل القاتل الذي هم بدورهم لديهم من يحرضهم، أو ربما مجرد غباء وافتقار للخبرة واستهتار بنفسيات المشاهدين!.
أذكر إلى الآن كم كان مقززاً ومقشعراً للأبدان ظهور صور الجثث الأولى في الحرب السورية الحاصدة لآلاف الأرواح، لم أنتبه وقتها لغباء القيمين على أقنية البث الفضائي (بفرض حسن النية أن الموضوع مجرد غباء)، لكن وبعد أن ارتفع الموت جثثاً كثيرة، وأصرَّت أجهزة الإعلام، الرسمية والخاصة، المعارضة منها والمؤيدة، أصرَّت أن تعرض كل جثة على حدة، مع بعض العبارات الموجهة، فيغوص المصور بتفاصيل الوجوه المهشمة، والأجساد المحترقة، والأعضاء المنفصلة عن الجسد، حتى تشعر أن الجثة أمام عيونك مباشرة، تستطيع لمسها وتقليبها وتفحص إصاباتها، فبدأت هذه الصور تحتل مكانها من الذاكرة، إنني الآن أتذكر الكثير من الوجوه المهشمة، والأطراف المتناثرة، وأجد صعوبة باستحضار وجه أبي الذي مات بلا حرب!.
لكن بفضل ذلك الإصرار والتكرار، وصلنا إلى وقت نتناول فيه الطعام ونحن نشاهد الذبح والدم، الذي وإن كان يُبَث إلينا عبر الأثير، إلا أنه يلطخ عقولنا، ويقتل أفئدتنا، ويريق ماء الشفقة فينا حتى آخر قطرة، نحن نشاهد قطع الرؤوس، وبرامج الطبخ، وفيديوهات عبد الله الحاج في نفس الوقت! دون أن نشعر بهول المصيبة! نحن نفرح ونحزن في الثانية آلاف المرات، وكأن الميت الذي (شيرنا) صورته لم يعد ميتاً بعد ثانيتين! بل كل الجرحى والأطفال الذين كانوا أبطالاً أمام الكاميرا، رماهم المخرج إلى العوز والفقر وندرة الدواء بعد أن صرخ Stop.
في حين أن هناك من يرى في الاعتياد على الموت أمراً جيداً، ويرى في عرض صور الميتين نقلاً للحقيقة، إلا أن الثابت ألا حقيقة واحدة عرفناها من الإعلام العربي الهزيل (الوطني والمندس)، كل ما جنيناه صور الميتين دون أن نتمكن إلى الآن من رفع إصبعنا في وجه أحد، فالكل متهمون ولا أحد منهم مدان!.
أي مستقبل نهديه لأطفالنا وهناك عشرات الجثث التي تشاركهم أسرَّتهم عندما إلى النوم يلجؤون؟، تُرى، ما هو شعور أمّ الجثة عندما ترى ابنها على شاشات التلفزة مشوهاً، وقد تخثرت قطرات الدم على تقاسيم وجهه الجميل الذي صار باهتاً كشبح؟ ما هو شعورها عندما تبتسم المذيعة بكامل ما أوتيت من مكياج وتقول (وقطعوا أوصالهم…)، هل ستغفر للمصور إذا غفرتْ للقاتل؟
لا نحن عرفنا قاتله فعاقبناه، ولا نحن احترمنا دمه فسترناه، كل ما حصلنا عليه صورة مشوهة وحسب! هي صورتنا قبل أن تكون صورته.
كاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص