دعد ديب |
بعيداً عن انطفاء الضجة الإعلامية التي رافقت نشر رواية استخدام الحياة والحكم الصادر بحق مؤلفها فالحديث عنها لاينتهي طالما لم تتغير الظروف والقوانين التي تكبل المخيلة والأفكار ذات الاجنحة فلم يكن أحمد ناجي مخترعاً للمفردات اللغوية ولم يأت بها من عوالم خياله .فاللفظ، المعنى ، الكلمة إيقاعها في الأذن متراشق ومتناثر بفضاء المدينة كيفما أدار المرء وجهه ليحمَل وحده وزر استخدامها وكأنه أتى بها من المجهول وما ردود الأفعال حولها إلا أفصح تعبير عن الحياة المزدوجة للمدينة المعلن والسري منها كما عبر عنه بحيث جاء حكم المحكمة المصرية صورة مكملة ومؤكدة على ما ذهب إليه العمل الروائي “استخدام الحياة ” مجتزئاً إحدى تمظهراته ذات الدلالة وغافلا عن العدسة التي رصدت مجتمعاً يمور بالبؤس والشباب الغارق بالفوضى واللامبالاة.
فالجنس الذي ينضح من رغبات الجيل الشاب الفاقد لكل شيء لم يبق لديه سوى المكبوت الغريزي غير المتحقق لدرجة يطفح من كل شي وتأخذ اللغة نصيبها الأوفى لذلك لا غلو في القول بأن ناجي بألفاظه التي حوكم فيها بتهمة خدشه للحياء هي اللغة المتداولة والمسموعة في الشارع كمتنفس لشكل المقموع ..وأتت معبرة عن قاع مظلم يفور بالاستهلاك لا بالقيمة الشارع الذي لا يعرف من المشاعر إلا إطفاء الشهوات الفائرة والمكبوتة بآن واحد، لذا جاءت صدمة العبارات ملائمة لبيئتها تماما فإذا كانت المفردات التي تخجل وتعفى من الذكر ويستعاض عنها بنقاط مثلا غير أخلاقية وفق ما أثاره كونديرا “فإن عالم المثل يجب أن ينتفي منها وهذا غير وارد واقعيا” ويندرج في ذلك ما أتى به احمد ناجي من تسميات و أوصاف موجودة كسلوك وكلام في القاع الاجتماعي وسواه ناهيك عن استخدامها كتقنية سردية فالعبارات المتداولة بفجاجة الواقع تأتي كتنبيهات صادمة لإعادة صلة القارئ بالواقع وكسر الإيهام المتأتي من أحداث غير يقينية الحدوث فالكارثة البيئية التي كانت العاصفة الرملية صورتها التي دمرت معالم المدينة وملامحها تومي بعلاقتها التشاركية بالمنظمة العابرة للحدود والقوميات ((بزعامة بابريكا ) المرأة ذات الإمكانيات الهائلة والتي لا يقف في طريقها شي ء فهي لا تقوم أفكارها على تطويع معطيات الواقع فحسب وإنما على خلق معطيات جدية والتأثير فيها كذلك يقابلها ذاك التكاسل المتراخي لشعوب المنطقة عن صيانة إرثهم وتاريخهم العمراني حيث الكآبة تغرق الجميع فالبشر العاجزون عن الابتسام يصبحون وليمة نموذجية متاحة للمافيات المتغولة والمنفلتة من عقالها، حيث تعمد إلى استغلال السكان المحليين لإعادة هندستهم وصياغة مفاهيمهم وفق أهوائها ومصالحها.
أحياء العشوائيات المبعثرة في أغلب الحواضر يشبهها بالطريق الدائري لفقدانها الهوية والانتماء إلا إذا كان الفقر والتهميش هوية معترفاً بها حيث تتباين التفسيرات في تشخيص القيمة المعمارية للمكان فهناك من لا يراها في القيمة الجمالية وإنما في تحقيق أعلى استنزاف للموارد الطبيعية فالتاريخ –الأسلوب- الجمال –السمات الثقافية كل هذا هوامش حيث العمارة أصل لكل ما سبق وهذا الأصل الذي نفخر به يتجلى ذلك في مهمة بسام الراوي للحدث السردي بإنتاج أفلام عن عمارة القاهرة فيها من “الابتكار والإبهار ما يدهش المشاهد والممول القطري كذلك” تضميناً لاتساع المافيا وضمها لرموز قريبة عبر تكرار العاصفة في أكثر من بقعة في العالم في إشارة لعولمة الاحتكار والجريمة والتلاعب بالماضي والحاضر فيما ما اسماه محاولة القفز إلى المستقبل.أي مستقبل أسوأ مما نحن فيه، هو الماضي يغير أشكاله، بصور ذاتية تدعي انتعاشها وتجددها عبر خلق أوهام عن التطوير والتجديد .والنتيجة كائنات هلامية، يائسة مثل ريم الشخصية الزاهدة في كل شيء العمل والمال والحب والجنس بعد تحطم مبررات وجودها لم يبق سوى المخدرات لهذا الجيل حيث تندرج بسهولة في البرامج المرسومة من المنظمة فصورة الحياة الاجتماعية للأنثى التي تتحرك كظلال .لتتجنب حراس الفضيلة الذين يتربصون بكل علاقة تكثف نمط العبودية المجتمعي الذي يرزح تحت وطأته جيل الشباب بمعنى أنك لا تملك نفسك في هذه المدينة كلنا خولات حسب تعبيره في الخولنة بعض الحصانة والكثير من الخفة إذ لا ضير يصيب المرء مادام مندرجاً في القطيع وبذات الوقت خفيفاً لا قيمة له.
الكيتش أو الفن الرديء المبتذل والمستهلك يبرز كفقاعة حبر تطفو في الفضاء الثقافي ما بعد العاصفة بتجليات مبتذلة كذلك عبر عناوين “برقية حب للضفادع ” أو مشهد الصراع مع الذباب وانتصار الأخير فيه في مشهدية ساخرة ومضمرة بآن واحد تلخصت بتصوير ما حدث للقاهرة وكأنه غضب آلهة الطبيعة الخضراء ..الطبيعة بمجملها فيها الأخضر والأصفر والانحياز للأخضر هو تجديف بحق الطبيعة أو انتقاص من كينونتها الكلية الامتداد.
يغامر احمد ناجي بإدخال الرسومات التعبيرية كعمل مشترك مع الفنان أيمن الزرقاني في خطوة جريئة وجديدة، فالسرد الروائي بوصفه فناً ماصاً للفنون الأخرى يتحمل ادماج أنواع أخرى من الفنون في قالبه المجسد لحياة ظلية ..أي انه قادر على احتواء الشعر واللحن والنغم والأقصوصة حسب تعبير أدوار الخراط فهو بذلك يعطي إمكانية كبيرة للاتساع عبر اتكاء مشروع على فنون ذات طبيعة بصرية مباشرة لا متخيلة ومع ذلك ثمة زلة فنية إذ رافق الرسوم التصويرية تعبيرات سردية لشرح مدلولاتها يعني رجع إلى السرد مما افقدها صفتها التحديثية فإذا لم يكن الرسم في هذا الحيز قاصرا عن إيصال المعنى فما من داع لإيضاحها بالكلام لأنه يوجد نص سردي على عاتقه هذه المهمة ..الرسومات مهمتها إيصال المعنى بلغة خطوطها وإذا لم تستطع تفقد مبررات وجودها.
“استخدام الحياة ” الرواية التي خدشت حياء سدنة القانون والإفتاء سيئة الصيت والسمعة والتي سبق لها أن أدانت طه حسين ونجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد أشعرتنا مجدداً بالخزي والعار لبقاء و استمرارية هذه القوانين والأحكام كجواز مرور لعصور العتمة بكامل عتادها لتغرق بسوادها ماتبقى من عالمنا الذي يتداعى مرة بهشاشة وجودنا ومرة بثقل خفافيش الظلام.
صحفية وناقدة سورية | خاص موقع قلم رصاص