أمامي قلب دمشق، الأموي.
أنساب يميناً إلى جادة الغزي في العمارة الجوّانية وأشرب الماء من سبيل قديم مركون على مفترق طرق، أقرأ الفاتحة في قلبي على روح رباح الجزائري الذي لا أعرفه. وهكذا كل يوم تقريباً.
قرب السبيل بائع فلافل، نصب عدّته في الطريق، الأقراص الصغيرة تتقلّب في الزيت، رائحتها واخزة في صباح لم يفسده تلوث الهواء بعد، إنها تزعجني. في أيام أخرى أجده جالساً قرب السبيل على قطعة ستيريوبور مكعبة، لا أعرف ما غايتها أو من أين أتى بها ليحوّلها إلى كرسي، وما أن يراني حتى يمدّ لي الطاس المعدني لأشرب، فأبتسم له.
قربه، على الجهة المقابلة من الزقاق الضيق، طاولة فيشة، هادئة ومستسلمة في الصباح الباكر، أما في المساء فيختلف الأمر، يتجمع حولها الأولاد من مختلف الأعمار وترنّ ضحكاتهم وصرخاتهم تحت فضاء القنطرة.
أبتعد قليلاً فتغمرني رائحة البرودة والصباح، وتلامسني الشمس.
يتجه نحوي رجل لائق المظهر يتكلم بصوت عال، ظننته يتكلم على موبايله لكنني فوجئت بأنه يكلم نفسه حين حاذاني:
– عياره يومين بالمخابرات الجوية بيجي خالص.
يمر قربي ويكمل طريقه، ألتفت لأنظر إلى ظهره ولحركة يديه وهو يلوّح بهما في الهواء.
إنه ليس السوري الأول الذي بات يكلم نفسه بصوت عال، أنا أيضاً أكلّم نفسي أحياناً، لكن بيني وبين نفسي، وفي مواضيع أقل حساسية من موضوعه.
على يميني مقام السيدة رقية.
حرس المقام ببذلاتهم الجديدة ترابية اللون منتشرون وعلى أهبة الاستعداد، تلفتني أحذيتهم منذ أن وزّعوا البذلات الجديدة عليهم. تبدو متينة، ومن الجلد الطبيعي، أتحدث عم أحذيتهم لأنني مهووسة بالأحذية المريحة، والموضوع هنا لا يقبل أي إسقاط من أي نوع كان، لأنني لا أتحدث عن الأحذية العسكرية بل عن الأحذية بشكل عام، المهم، كلما أراهم أتمنى لو أستطيع الحصول على حذاء مريح كحذائهم، لكن المشكلة تكمن في المقاس فقط.
تقطع طريقي مجموعة من الأولاد الذين يربطون رؤوسهم بعصبات مكتوب عليها “يا حسين”، إنه يوم عاشوراء، وزوّار المقام كثر يتزاحمون عند بابه المحاط بالحرس وكاميرات المراقبة. شجرة الكينا المئوية ترقد قرب المقام مُقَطّعة، قطعوها منذ أيام قليلة، فكرت حين شممت رائحتها:
– الشجرة متل الوطن، حدا بيقطع وطن؟
شجرة يزيد عمرها عن المئة أو المئتين، شاهدة على التاريخ وحياة البشر، لم قطعوها؟ ربما خوفاً من قناص يختبئ على سطح ما، لا أعرف.. لكنني فسرت الأمر هكذا: – لدواع أمنية..
أسمع تراتيل حزينة، أدعية، أذكار، لا أعرف ما تُسمّى، ولا يهمني أن أعرف، أعرف فقط أن الصوت الآتي من مقام رقية جميل وحزين.
*****
حين يحضر الموت مجسداً في النعوات الملصوقة على الجدران وصور الشهداء، وأصوات القصف والرصاص أرى الحجة أم حسين أمامي تجلس متربعة على الصوفا والسيجارة في يدها:
– ربي يطعمني موت وغبرة الطريق لسّاتا على رجلّي متل ما ماتت أمي.
لكن الله لم يحقق لها أبسط أمانيها.
إنها ذاكرة غبرة الطريق العالقة على قدمي خديجة ابنة تاجر الغنم وقدمي أمها في رحلتهم الطويلة من قريتهم فرعم عبر جسر بنات يعقوب عام 48، كانت حينها في التاسعة من عمرها، لكنها لم تستطع نسيان بيارات البرتقال وتلك الأرض المعطاءة الخصبة المطبوعة في ذاكرتها كطفلة.
رحلة طويلة بدأت بمعرة النعمان، تزوجت بأبي حسين في الثانية عشرة واستقرت معه في دير عطيه أربع سنوات، بعدها سكنوا حمورية لثلاث سنوات أخرى حيث أنجبت بكرها حسين في السادسة عشرة من العمر. ثم حدث ما يسمونه (الطبب) في بساتين لعائلة المهايني، وهي الأرض التي تحولت إلى مخيم اليرموك لاحقاً.
كم بعيدة مقبرة كفر سوسة عن مقبرة المخيم حيث دفن الحجي في العام الأول من الحرب، قبل أن يهجّر من منزله، وقبل أن يتساقط جيرانه وأقاربه واحداً تلو الآخر.
عام والطريق صار طويلاً إلى بيتها ومصطبتها التي أدمنت الجلوس عليها للاطمئنان على أخبار الجيران، عام والطرقات الإسفلتية الجديدة وبيوت الأبناء الذين تشتتوا في أرض الشام حرمتها تلك الغبرة التي حلمت بها، عام كامل لم أستطع فيه زيارتها، ولم أستطع حضور العزاء.
تقول وهي تسحب من سيجارتها التي يتساقط رمادها عفواً على الأرض:
– يللي مافي بالقبر منو كتّر منّو…
فنضحك بخبث أنا ومشاكل، ملمّحتين إلى رغبة الحجي التي ظلت مشتعلة لأكثر من 55 عاماً.
تشتم خديجة سوء نيتنا، وتنظر لسيجارتها التي لم تفارق أصابعها حتى في الحج.
أنا ومشاكل “مزلبطات” لأننا غير محتشمات، وسيحرقنا الله في نار جهنم بسبب ذلك، كم كنا نمازحها بسبب تلك الكلمة.
– حجة.. أنا بتزلبط من فوق وميادة من تحت… يعني عاملين اختصاص.. مو كل شي بفرد مرّة..
لم يعد للحزن مطرح في القلب.
أغص حين أفكر بجملة ميادة حين اتصلت إلى هولندا لأعزيها:
– ما عاد تطبخلنا رز ببازيلا يا أنوش.. خلص.. راحت الحجة أم حسين..
لم يبق شيء سوى ذاكرة تفيض بالألوان والفرح، بأمكنة لم تعد موجودة وأصوات أرواح تقمصتنا بعد أن غادرت.
*****
يسير أمامي. أنظر إلى كعبي قدميه المشققين في الشحاط، نحو الفرن الذي يتزاحم عنده الناس في العقيبة، الشارع الذي يصل مخرج باب الفراديس إلى الملك فيصل مع شارع الثورة.
– أوعا يا مزموزيل..
فأبتعد عن طريق سائق البسكليت الذي يناور مسرعاً في الطريق الضيق حيث تسير جماعة من النَور بملابسهم الزاهية، وأسنانهم الذهبية التي تلمع مع ضحكاتهم.
أنزل الدرجات المؤدية إلى شارع الثورة لأقطعه إلى الجهة الثانية حيث سوق ساروجا، على الدرج ولد معاق يبسّط ربطات الخبز، أفكر:
– رح أشتري ربطة منّو وأنا راجعة من المسرح…
22 تشرين الثاني 2013
موقع قلم رصاص الثقافي