محمد جاسم الحميدي |
هرّم الثعلب، واقتربت رجله من القبر، ولم يعد يحصل على قوت يومه، فندم على تاريخه الحافل بمجازر الدجاج، فحج إلى بيت الله، ولبس سيدية خضراء، وتجول بين القرى مبشراً بتاريخ جديد للدجاج، ومعلناً نفسه مخلصاً له من أفواه الضواري..!
سعت إليه جموع الدجاج من كل حدب وصوب، لتتبرك به، وتلوذ بحماه، جاءوا صغاراً وكباراً، مرضى وأصحاء، كتكوت لم تجدل، وعجوز شمطاء، ديكة انقطعت ظهورها، وأخرى لا تنزل عن ظهور الدجاج، دجاجة مصابة بأبي عريف، وأخرى مصابة بالوسواس القهري، دجاجة تشكو من كثرة الضرائر، وأخرى عزباء.. ديك تعلم من الكتب، وآخر تعلم من الحياة، ديكٌ معارض لا لجاجة في خصومته، وآخر من جماعة المجتمع المدني، وثالث منعزلٌ يدعو بالستر لآله ونفسه.. استقبلهم الثعلب أمام خيمته وبشرّهم: هلمّوا إليّ يا معشر الدجاج فإني مخلصكم من خطيئتكم الأصلية، ولعنتكم الأبدية! آمنوا بي تسلموا، واسعوا إلـى حوزتي توهب لكم الحرية …
هللّ الدجاج، وصفقوا للحجي، وعاهدوه على الطاعة ليقودهم إلى الخلاص، فحكى لهم الثعلب عن أصل الخطيئة واللعنة التي أصابتهم، فقال، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح: كان أسلافكم يتمتعون بكل خصائص الطيور، يرتفعون عن الأرض، يحلّقون في السماء، يناجون النجوم، ويتمرون في وجه القمر، وتضع إناثهم بيضها فوق سحابة، في رأس جبل عال، فوق غصن ناء.. فإذا انحبس المطر، وأجدبت الأرض، أو أنزلت السماء زمهريرها، ركبوا الهواء، وطاروا في رفوف وأسراب إلى أرض دافئة وخيّرة..!
وفي زمن لا تعيه حتى ذاكرة الغابرين، جفّت السماء، وأمحلت الأرض، واتفقت الطيور كلها علـى الرحيل، فقال شيخ الطيـور: استعدوا للرحيل غداً، سنطير إن شاء الله إلى أرض أكثر كرماً، وسماء أوسع رحمة..!
كل الطيور بأنواعها، حتى البومة البليدة المدهوشة العينين أبداً، قالت: إن شاء الله… إلا جدكم فقد قال متجبراً مستكبراً: سأطير غداً شاء الله أم أبى..!
في اليوم التالي، بينما كانت الطيور كلها تحلّق في السماء، وتندفع أسرابها ورفوفها إلى فضاءات جديدة، وأرض عامرة، ظل آدمكم وحواؤكم يرفرفان عبثاً بأجنحتهما التي لا تحملهما!
منذ ذاك الوقت فقدتم حرية الطيور، وصرتم طعاماً للضواري..!
قال ديك عجوز: لقد ندمنا يا حجي! ألا ترى الدجاجة حين تشرب الماء ترفع رأسها إلى السماء، وتدعو من قلب محزون أن يعيدها الله إلى جنس الطيور لتصبح عصية على الأفواه النتنة؟!
قال الثعلب: بي.. وبي وحدي سيستجيب الله لدعائكم الأبدي..!
- – ممّ ستنقذنا يا حجي؟ لم تعد الخطيئة الأصلية إلا شيئاً هيّناً، فقد لحقتنا الأمراض كلها، ومارسنا الشرور كلها، كبائرها وصغائرها.
- – ثقوا بي، من يثق بي لا يندم، ما أن تزول الخطيئة الأصلية، حتى تتمكنوا من الذهاب إلى أرض الحقيقة حيث لا مظالم ولا موتى، فتُغسلون من الأدران، ويذهب عنكم البلاء، وتنجلي الأمراض..
- – كيف يا مولانا..؟
- – تأتون إلى خيمتي، كل يوم اثنين، اثنين ذكراً وأنثى، فأبيّت لكم، وأستخير الرب، وأضع في كل جناح حجاباً، فتطيرون بإذن الله..!
تزاحم الدجاج، وتناتفوا، وعلا الصراخ والضجيج، وانتثر الريش والدم، يدخل الأقوى، ويتأخر الضعيف.. فصاح بهم الحجي: تعلموا النظام يا أوباش… ادخلوا في طوابير منظمة، وليقم الأقوى منكم بتنظيم الدور…!
دخلت دجاجة برشاء وفحلها الأسود الذيل ، فبيّت لهما الحجي، وصنع لهما الحجب المطلوبة.. وفي الصباح سأله شعب الدجاج عنهما فقال: لقد طارا وهما يسلّمان ويدعوان لكم بما فتح الله عليهما…!
وفي اليوم التالي سألاه عن الدجاجة الحمراء وفحلها الأبيض، فقال لقد طارا… وحلفا أن يزورا قبر المصطفى…!
وفي اليوم الآخر، طارت الدجاجة البيضاء والديك الأبرش، وهما يدعوان الآن لشعب الدجاج في حرم الكعبة …
توالت الأيام والدجاج يطير إلى قبر المصطفى، أو إلى بيت الله الحرام، أو إلى القدس الشريف، أو إلى عواصم الدنيا وبراريها… فقال ديك عجوز: لماذا لم يعد مَن ذهب؟ تطوع كثيرون للإجابة:
- – أيعود من يذهب إلى تلك الأرض المقدسة؟
- – ألا يعود ليخبرنا بما رأى..؟
- – إنهم ينتظرون أن نلحق بهم.
- – هم السابقون، ونحن اللاحقون.
- – أرضنا جحيمنا، فلنبتعد عن الجحيم.
- – على هذا المعدل سيُدرك الموت أكثرنا قبل أن يأتي دوره.
- – لماذا لا نذهب أربعة أربعة أو حتى مائة مائة.
- – لنجعل الحجي يُسفّرنا بالجملة.
- – أيستطيع؟
- – القادر على القليل قادر على الكثير.
وقبل أن يُجمعوا أمرهم، قال الديك العجوز: ما يشغلني شيء آخر، قلبي ينذرني بشر، فقد قال حكماؤنا: لا تأمنوا لعدوكم وعدو آبائكم.. ثم إنني سمعت مالكاً الحزين يقول، إن الثعلب هو الذي دعا ربه، يوم طارت الطيور، قائلاً: يا رب سينقرض نسلي، إن طارت الطيور، فاترك لي الدجاج، وليكن طعاماً لي ولذريتي..!
- – لقد تاب وتغيّر..
- – لا تتغيّر طبائع النفوس..
- – لا نستطيع أن نشكك في راعينا ومخلصنا..!
- – إن لم نشكك به لن نسلم، والرأي عندي: أن ندعو كلباً من إحدى القرى، ونزعم أنه مريض، ونطلب من الثعلب أن يشفي حارسنا من مرضه، فإن كان صادقاً فعل، وإن لم يكن كشفناه..
دخل وفد من الدجاج على الحجي في خيمته، وتباكوا عنده، لقد مرض كلبنا (طوكان)، ونريد أن ندخله إليك، لتقرأ عليه، وتمسح جسده بيدك الكريمة..
غضب الثعلب: أجننتم..؟ أدخل كلباً إليّ..؟
- – لقد تاب طوكان عن عداوة الثعالب منذ أصبحت مخلصاً لنا..
- – لا آمنه على نفسي…
- – فكيف آمّناك علينا؟
- – أتقارنوني بكلبٍ هو عدوي وعدو آبائي وأجدادي، لا تصدق توبة عدوّ الجدّ.
- – ألم تكن عدونا وعدوّ آبائنا وأجدادنا؟
- – أتعيرونني بعداوة الأجداد؟ أنتم أكثر نسياناً للمليح من ابن آدم نفسه، لقد حققت لكم ما لا يحققه إلا ربّ لرعيته، وعدتكم بالحرية وبجنّة عرضها السماوات والأرض، وتأبون وكأنكم ما تخلصتم من عقدة عدم الطيران، إلا اصطحاب الكلب النجس إليها، لم تعودوا بحاجة إلى الكلب.. لم يعد الكلب يدفع عنكم فأنتم تطيرون.
- – نعرف أننا لا نحتاجه بوجودك، لكننا نريد أن نعمل صالحاً لمن كان وفياً لنا!
- – سبعون ألف توبة لا تطهِّر الكلب، إنه أنجس من عُذرة، وأنتن من ضربان.. وما دمتم تصرّون فإنني سأتوضأ وأصلي وأسأل الرب إن كان يحق لي معالجة الكلاب، فلا أفتي في هذا الأمر بنفسي، فأخّروه عني قليلاً..؟
خرج الوفد من خيمة الثعلب، فخلا الحجي إلى نفسه، كبّر للصلاة، ووقف بين يدي ربه خاشعاً، فتذكر أن ابنه سأله ذات يومٍ غابر: أنحن آصل أم الكلاب؟! ردّ الثعلب غاضباً لائماً ابنه على سؤاله الأحمق: أهذا سؤالٌ؟! نحن بالطبع، ولكن ليت ظعوننا لا تلتقي بظعونهم أبداً! ومازال الدجاج ينتظر، بقلوب واجفة، ورؤوس خاشعة، أن ينهي الحجي صلاته، وأن يخرج ليخبرهم الخبر اليقين!
وفي رواية أخرى: أن كلباً أجرب جاء من أقصى البرية يسعى، فبكى ضيعة الدجاج وجنونهم، إذ استولى الثعلب على عقولهم، وأصبح يسيرهم حسب مصالحه وأهوائه.
فقالوا له: أيحزنك أننا لم نعد بحاجة إليك؟
قال: أنتم تصدقون عدوكم، ومن يصدق عدوه فالخسران حليفه، فأنتم تمنحونه أنفسكم وأولادكم وذراريكم إلى ولد الولد..
احتجوا بتسامح: إن عداوتك الأبدية هي التي تحرك سوء ظنك.
– ليثبت الحجي ما يقول، ليعد لنا واحداً من المسافرين يخبرنا باليقين.
– إنهم لا يرضون بالعودة إلى أرضنا الفانية.
– من أرسلهم يستطيع استرجاعهم، فليأت بأحدهم ولو بالقوة.
دخل وفد من الدجاج على الثعلب، وقالوا له: نريد أن تقابل حامينا السابق.
– لن أقابل كلباً نجساً.
– من أجل خاطرنا.. فلديه سؤال يطرحه عليك.
– لقد أجبت عن الأسئلة كلها.
– نعرف أنك ستقنعه.
وإذ دخل طوكان وعاينه الثعلب، قال فرحاً: حسناً فعلتم، فهذا كلب صالح، صلى ورائي في الكعبة.
خرجت الدجاجات، وقد اطمأنت إلى أن خلوة الثعلب وطوكان ستكون مثمرة للطرفين، وبالفعل لم يلبث أن خرج طوكان مزداناً بشرائط خضراء في رقبته وقوائمه، وقال للدجاج: لقد ظلمت شيخي الثعلب، فقد صليت وراءه منذ عام في الحرم، وقد رغبت أن يعيدني إلى تلك الأيام الخوالي فحملني على ظهره، وما هي إلا غمضة عين وانتباهتها، حتى وجدت نفسي في حضرة إخوانكم هناك، وهم ينعمون بالأمن والسلام، وينتظرون قدومكم إليهم … وقد تشاورنا، أنا والحجي، فقررنا أن نسفّركم بالجملة، فاحتفل الدجاج بهذه المناسبة السعيدة، واقسموا الولاء الأبدي لوليهم ومنقذهم وصاحب كراماتهم.. وما زال الدجاج الأيديولوجي يحتفل بذكرى زيارة الكعبة المشتركة الحادية والأربعين بعد الألف.
كاتب وقاص سوري راحل | خاص موقع قلم رصاص