ومع أنه لا يمكن اعتبار البوركيني مسألة مهمة على أي صعيد، إلا أن ضجيجه فاق التوقعات في وسائل الإعلام والتواصل، ما يشي بأنه مناسبة، أكثر مما هو واقعة حصلت وتحصل في كل مكان وزمان وتنتهي بعد الوصول إلى حل لها، ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، بل اندلقت له البطون والصدور مفشية أسرار الكون ولغز الحقيقة المرمزان بوقائع تكارهية مستلفة ومضمرة، وتحول البوركيني إلى ذريعة لمناقشة الفكر الغربي “الضال” أولاً، وغير المخلص لنفسه ثانياً، والمتماهي مع الاستعمار ثالثاً، لأنه ببساطة هناك فرصة لاحت ولا تفوت للنق والشكوى لعزيز قوم ذل يمكنه أن يلقن “هؤلاء” درساً في الإنسانية السمحاء قبل غرقها بثوان في لجة المادية العولمية البغيضة، وتعليمهم سبل احترام الآخر والأقليات والمكونات والهويات، في تنبيه واضح أن هذه التعاليم تسري عليهم وحدهم لأنهم هم الضالون، أما نحن فقد عدّانا العيب نرفل في طمأنينة المعرفة الكاملة التي تنجينا من أخطاء وخطايا هذه الدنيا الفانية، وعليه فإن حادثة البوركيني والتي لاقت حلاً لها في أداء الجمهورية الفرنسية، حيث لم يشبع هذا الحل ظمأ “المتعقلين” من كتاب ومعلقين، فحولوها إلى منبر لمناقشة هول ما وصل إليه الفكر الإنساني من خراب، ومع أن هكذا كتّاب لم ينظروا حولهم أو تحت أقدامهم بل عبروا بنظرهم البحار ليقفشوا هؤلاء بالجرم المشهود، ويحاسبونهم على ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم، من صعوبات من بناء الجوامع في أوربا وحتى تعليم اللغة العربية وما بينهما من “قضايا كبرى”، ولكن الأهم من تلك القضايا هي العلمانية كقضية فكرية “محورية” يسعى الغرب إلى تصديرها لنا من أجل تخريب بنيتنا الثقافية والانتصار علينا، وهنا وفي حادثة البيوركيني بالذات تبدو المسألة تلفيقية تماماً فالعلمانية (كأداء دولتي) وقفت الى جانب البوركيني وأباحته من مبدأ الحرية الفردية، وربما “قصرت!” هذه العلمانية بإقراره كلباس بحر وحيد ومعتمد، ربما لأنه لا يؤثر سلباً على المجتمع كما يؤثر المتعرون مثلاً، مع أن لهم نفس كمية ونوعية الحق الذي كسب البوركيني معركته به، ليبدو أن التأثير السلبي أو الإيجابي هو لب القضية وهو مسألة تقديرية استنسابية تشترط فضيلة ما ترجح كفة حرية على حرية وحق على حق من خارج الموضوع برمته، حيث تبدو العلمانية لديهم مقبولة ولكن مشروطة بقائمة طويلة من الممنوعات التثريبية التي تعبر عن فضيلة بدهية وإيجابية عابرة للقارات والأزمنة والإنجازات الحقوقية، وليصبح من البدهي أيضاً أن يكون الاستبداد مثلاً شرطاً للحرية.
ومع أنه ليست هناك جهة مهما كانت أقرت بالبوركيني كلباس بحر إسلامي أو السماح به أو حتى السماح بالسباحة للمرأة، يفتتح هؤلاء الكتاب والمعلقون معروضهم السامي بأن البوركيني هو لباس البحر الإسلامي معقبين (على ما اتفق عليه !!!) ليقوموا بإتهام العلمانية بالتطرف والغلو بسبب “الخلفية” الأيديولوجية لهؤلاء العلمانييون إذ أنهم أعداء مهما فعلوا ويستطيعون الحكم على نواياهم مهما كان واقعهم وأولوياتهم، ليتم التشكيك بقيمهم ونصحهم بالأفضل منها، أو جلبهم إلى جادة الحياد واللاموقف من أية مسألة يقدر تأثيرها السلبي أو الإيجابي هؤلاء الكتاب والمعلقون المتجهبذون، حيث تتحول العلمانية لا بل والليبرالية إلى قضية تبشيرية ذميمة تستحق الاستنفار والمقاومة حتى لو كانت في بلاد ومجتمعات بعيدة، لتتعدى المماحكة في قضية العلمانية هذه إلى حوادث أخرى، فيحتج الكاتب المصري وليد محمود عبد الناصر، مثالاً (جريدة الحياة 19 أيلول 2016) مناقشاً العلمانية على صعوبة بناء الجوامع في أوربا بالمقارنة مع العالم العربي، بناء على خيانة الأوربيين لعلمانيتهم، ولكنه لا يرى ضرراً في نفس العنت في مصر (بناء الكنائس)، فالمصريون لا يتبنون العلمانية لذلك هم في حل من أحكامها وقواعدها المشروطة وغير المشروطة، حيث يبقى الإثم على ما يقوم به الأوربيون وحدهم.
من جهة ثانية يحذر هؤلاء الكتاب والمعلقون من التطرف والغلو الذي بدأ يظهر في البلدان الغربية، كأحد منتجات العلمانية، التي تهدد ذاتها ومجتمعاتها فالتطرف والغلو واحد من مخرجات العلمانية المتشددة (أي التي لا تخضع للشروط المقترحة) على الرغم من أن العلمانية في رأيهم “تدعي” خلوها من هكذا أشياء، إلا أن الإدعاء يحتاج إلى من يصدقه أو إلى أدلة وبراهين على براءتها وهي غير متوفرة فاليمين الأوربي في صعود ما يهدد شريحة من البشر ما فتئت تؤثر في المجتمعات تأثيراً إيجابياً، وبالتالي عليها تحمل مسؤولية ردود أفعال هؤلاء في حال غضبوا أو تذمروا، لنصل إلى نتيجة واضحة هي أنهم أي “الغرب” كاذبين حتى لو صدقوا!.
المهم في هذه العجالة، هو تحويل حادثة إلى منبر، يستعمل في إلقاء خطاب ثقافوي منزه، يستطيع الولوج في أي مسألة فكرية كبرى أو حادثة بسيطة (على قدم المساواة طبعا) مطنباً في تعليم وتوجيه الآخر إلى تجاوز “تخبيصاته” الثقافية التي تؤدي دائماً إلى هدر حقوق الآخرين والاعتداء عليهم بصفة متعالية ناتجة عن وهم عنصري بالإنجاز، في مقارنة واضحة بين بناء طائرة جديدة واختراع لباس جديد للبحر، حيث يظهر الاعتداء في ردة الفعل على موضوع الجدة، فالأمران جديدان على هذه المجتمعات فلماذا رفض البوركيني (لم يرفض) وقبول الطائرة ؟! ليبدو هذا المنبر كمحاولة لإغراق الحالة الثقافية الراهنة وتساؤلاتها الخطيرة في ساقية جانبية لا تحمل كتابها ومعلقيها أية مسؤولية فالمنتقد هو الغريب المستباح، والذي يحتمل هكذا نوع من المزاح النقدي لأن من واجبه كعلماني غربي أن يحتمل النقد، ويقبل الأفكار الجديدة ذات الأثر الإيجابي على مجتمعه!.
وعادة ما ينهي هؤلاء الكتاب والمعلقين معلقاتهم بالتنبيه من التطرف والغلو، وأخذ المسائل على محمل التفكير والتحليل والتدبر، حيث يمكن الوصول عبرها إلى تفهم وجهة نظر الآخر في بلده ومجتمعه هو، حيث يمكن لخطوط التفاهم أن تنفتح، مع التنبيه أن هناك غير العالمانية أو اللبيرالية قد يكون لها تأثير سلبي على هاتيك المجتمعات وما نحن إلا ضمانة لرشدها وعلينا نصحها كي ترعوي.
هناك مثل سوري طريف يقول: (روحوا ألعبو بعيد).. ربما يخطر على بال أحدهم أن يقول لهؤلاء الكتاب والمعلقين ..يا عمو … روحوا العبو بعيد.
مجلة قلم رصاص الثقافية