كان حسني الزعيم يسعى لتطوير سورية إلا أنه كان مُستعجلاً بحيث لم ينتظر إعداد برامج تطويرها أو تشكيل لجان إنمائية كتلك التي أحدثها عبد الله الدردري حين دق المسمار الأخير في نعش الطبقة الوسطى في سورية.
اختصر الزعيم الطريق وكأنه يدرك جيداً أن أيامه معدودة في حكم سورية، ولا بد له أن يفعل أمراً لم يسبقه إليه أحد، فما كان منه إلا أن أصدر قراراً فرض بموجبه على الشعب السوري لبس البرنيطة بدل الطربوش الذي كان مفروضاً من سلطة الاحتلال العثماني.
رغم أن الزعيم أصدر العديد من القرارات الهامة التي ساهمت لاحقاً في تحسين الواقع المعيشي لعامة الشعب إلا أنه كأي ديكتاتور لم يؤمن بالثقافة وحرية الكلمة واختصر المشهد الحداثي أو التقدمي بـ”البرنيطة”، وتجاهل كلياً أن النتاج الفكري الحقيقي هو ذاك الذي يفرزه تلاقح الأفكار فيؤسس لحالة ثقافية إنسانية خالدة بالدرجة الأولى، أما اللون الواحد فهو مقيت ولا ينتج عنه سوى «عقم فكري». وهذا ما حصل تماماً حين آلت السلطة إلى حزب البعث وعانت الثقافة من الركود نتيجة كم الأفواه وسياسة التدجين التي أتبعها البعثيون فأصبحت الثقافة حكراً عليهم دون غيرهم، وتم تأطيرها وفق إيديولوجيات المنطلقات النظرية، ثم تحولت حالة الركود تلك إلى أسن، وانتقلت الثقافة بعد فترة وجيزة إلى مرحلة الموت السريري لأن ما كان يحدث من إرهاصات ثقافية في المجتمع لم يتخط الفقاعات الإعلامية من خلال العناوين البراقة والبحث عن الأمجاد الشخصية بعيداً عن التفكير في بناء جيل متماسك قادر على المواجهة الحقيقية، وفي النهاية رغم اختلاف العناوين المطروحة على مدى عقود من الزمن كانت الايديولوجية واحدة، جامدة وكل ما يخالفها مُحرم، فماذا يعني أن تُمنع رواية من التداول؟، أو تحجب موقع إلكتروني؟، تنغلق فكرياً وتنفتح اقتصادياً، فتخلق حالة من عدم التوازن، بين مقومات تكوين المجتمع المتماسك الذي تسعى لجعله مجتمعاً مثالياً على كافة الصعد.
هذا كله ساهم على الصعيد الداخلي بـ«نقص المناعة الثقافية» ثم اشتعلت الحرب وأعادت سورية إلى مرحلة ما قبل الدولة، ورغم اختلاف الأساليب والأدوات إلا أن المشهد لم يختلف كثيراً فهو إعادة لما كان يحدث على أيامها، ولكن بتطرف أكثر، كلٌ يحاول إثبات وجوده دون التفكير بالحفاظ على خصوصية المجتمع المستهدف، إلا ان حالة الفوضى العارمة والصخب لا تسمح بتحقيق ذلك .وفي النهاية لا يمكننا أن نلخص الحالة الثقافية السورية مهما حاولنا لأن المجتمع يعاني اليوم، والنتاج الفكري هلامي، والثقافة تعاني شيزوفرينا مزمنة، إلا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بعض النتاج القليل، ورغم ذلك نحتاج إلى ردح من الزمن حتى نشفى من عللنا وعقد نقصنا كي ننهض مجدداً بشكل حقيقي بعيداً عن الدجل والنفاق الثقافي والإعلامي المستفحل، وتسجيل المواقف المأجورة عبر الارتهان للآخر.
مجلة قلم رصاص الثقافية