عامر العبود |
مصيبةٌ أنْ يكون اسمك محمد في بلدٍ مسلم! ومصيبةٌ أكبر أن تكون شهرتك الحمصي أو الحلبي أو المصري…إلخ، لكن نعمة تشق المصائب أن تكون في زنزانةٍ منفردة، تملك فضاءها وحدك!.
كانت الزنزانة ضيقةً كقبر، وباردةً كقبر، وفيها من العذاب ما لسكرات الموت، لكن محمد كان متفائلاً، فهو مواطنٌ صالح، لم يشتم أحداً، ولم تعرف حنجرته الهتاف، ولا حملتْ أكتافه رجلاً عصبياً يريد إسقاط قطعةٍ من التاريخ بالصراخ، ولا بد أن المحقق سيدرك أن محمد مواطنٌ صالح، ولا بد أنَّ تلك الآذان المزروعة في الجدران لم تستطع أن تلتقط كلمةً واحدةً من فم محمد تهين أو تشتم، ولأن محمد مؤمن بقدرة المخابرات على معرفة الحقائق، كان متفائلاً جداً بأنه سيخرج خلال شهور قليلة من تلك الزنزانة الجميلة كقبر!.
كانت الزنزانة بلا مرحاض، وهذه مشكلة حقيقية، تكاد تفوق بعظمتها كل المصائب، لكن محمد تأقلم مع أوقاتِ الدخول إلى الحمام، واستطاع أن يضبط مصراته وفق ساعته البيولوجية، خاصة بعد أن انتهتْ مرحلة التحقيق، ودخل بمرحلة الاحتجاز لأجل الاحتجاز، وفي ذلك اليوم الجميل استدعاه المحقق إلى مكتبه في غير الأوقات المعتادة التي برمجها في عقله، ظن أنهم سيستأنفون التحقيق معه، لكن المحقق كان مباشراً، ولم يقم بعملية التشويق المعتادة في برامج المسابقات، بل قال بكل بساطة:
“جهز نفسك، ستخرج صباحاً”
استحضر محمد كل عبارات التسول والدعاء والاسترضاء والتملق التي حفظها في حياته، وبصقها دفعةً واحدةً في وجه المحقق، ثم في وجه السجان الذي أعاده إلى زنزانته، وأحكم إغلاق الباب عليه، فركع على ركبتيه وقدم لله ما يستحقه من الشكر والثناء.
بعد دقائق هدأ الفرح، وعاد العقل إلى حيز الاستخدام، كانت أول معضلةٍ واجهها في الوقت، فهو يستطيع تقدير الفاصل بين حدث وآخر، لكنه لا يعرف كم الساعة الآن، ولا يعرف كم تبقى من الوقت للصباح الذي سيشهد خروجه من هذا المكان، ثم بدأ يفكر في أول مكان سيذهب إيه فور خروجه:
“لن أذهب إلى البيت، سأذهب إلى حمام السوق أولاً لأرفع عن جسدي قذارته، ثم إلى الحلاق، ربما أذهب إلى السوق وأشتري هدية ما لولاء، هل كان اسمها ولاء أم آلاء؟، لا يهم، المهم أنني على وشك الخروج، كنت أعرف أنني سأخرج، لا بد أن أمي حزينة، ستفرح بزيارتي أكثر من زيارة الكعبة!، أقسم أنيَّ سأبني غرفة على السطح بلا جدران، لعنة الله على الجدران”
فكر بكل شيء، وضع خططاً لعشرة سنواتٍ قادمة، وغرق في الخيال، فغلبه النعاس، أخرج قطعة الكلس من حفرةٍ صغيرةٍ أسفل الجدار، ورسم خطاً مائلاً بجانب الخطوط الكثيرة التي تدله على الزمن، وكتب بجانبه (الخط الأخير اليوم 241)، ثم انفجر نوماً، كما لم ينم مذ اعتقدوا أنه محمد آخر.
ثم استيقظ، ونام، واستيقظ، ثم نام…إلخ، وفي كل مرة كان يمسح الجملة عن الحائط، ليرسم خطاً جديداً، ويعيد كتابة الجملة ذاتها، أخيراً تجرأ وسأل الحارس:
“منذ أيام قال المحقق أنني سأخرج صباحاً، متى هذا الصباح؟”
ضحك الحارس بسفالةٍ كعاهرة:
“ألم أخبرك، لست أنتَ المقصود، بل محمد آخر…”
لا داعي لوصف الخيبة!، اتجه إلى الحائط، ومسح جملة (الخط الأخير اليوم 253)، ثم مسح كل الخطوط التي رسمها، ورسم خطاً واحداً كتب فوقه، (اليوم الأول… حظاً أوفراً يا محمد، وتذكر أن تغير اسمك).
كاتب سوري | خاص موقع قلم رصاص