هالة مرعي |
في الصباح، تركب الباص وتتجه إلى المدينة. أجساد ورائحة عرق، عيون وقحة، عيون ذئاب تتقد في وسط الزحام. إنّها تتقزز من كل شيء.
في حقيبة جلدية متوسطة الحجم تضع لوازم مهنتها. مقصات، مبارد، قطن، ألوان من طلاء الأظافر ومزيل للطلاء. على دفتر صغير ،تدّون مواعيد الزبونات بدّقة .
قامتها ما تزال منتصبة، شعرها مصبوغ دائماٌ. تنتعل خفاً رياضياً أغلب الوقت لأنّها قد تقطع مسافات مشياً على الأقدام من بيت زبونة إلى أخرى كي توّفر بعض المبالغ التي تجد أن هدرها غير ضروري.
بصبر وجلد اعتادت أن تحتمل الأيدي والساقين حين تمتد إليها بتراخ وكسل كي تضع طلاء الأظافر فوقها.
بذكاء أصبحت فيلسوفة في فهم طباع تلك السيدات. تفهم جيداً بأي حديث تبدأ ومتى تصمت لتسترق السمع إلى مكالمات الزبونات المفاجئة. أخبار الأخريات من نساء المدينة الصغيرة لا تقل أهمية عن أخبار الصحف والمجلات. نساء لا هّم لهن إلا أن يذاع صيت جمالهن وثرائهن على كل لسان.
أيام وأيام وهي تُعمل مقصها بخفة في أظافر القدمين والرجلين .هن جالسات أمامها ،أغلبهن مصففات الشعر وفي أثواب خفيفة، لا تضيق إحداهن سوى بأن يكون أمسها عادياً.
تضع لهن الأحمر والأبيض والزهري ،حسب رغبة كل واحدة منهن وحين كانت إحداهن تطلب عناية مضاعفة كانت تشعر بإحساسها الأنثوي أن السهرة ستكون مميّزة فتلجأ إلى طلب أجر إضافي. حينها، لم تكن لتمتنع الزبونة عن زيادة أجرها.
جميعهن متشابهات. أغلبهن يحب الأقاويل ،وهي بحكم مهنتها تلك دخلت معظم البيوت الذين يستطيعون دفع أجر تلك العناية.
أيام وأيام مضت وهي تحمل حقيبتها لأنّها لم تكن تملك صالونا خاصا بها للتجميل تستقبلهن به .
كانت تستغرب حرص بعض السيدات الميسورات على إخفاء أمر تلك العناية عن أزواجهن وتعزو الأمر إلى بخل الزوج. قابلت الكثيرات ودخلت العديد من البيوت وأصبحت حقيبتها مليئة بالأسرار ولكنّها كانت الحلقة الأضعف وكانت الأقاويل تنسب إليها فتقع ضحية الآخرين. لم تكن بريئة تماما ولكنّها لم تكن تستطيع منع نفسها عن الاستماع أو المشاركة بالأحاديث.
آه. كم تحب جَلْد الجيوب الممتلئة لنساء لا تقل عنهم شأنا.
أغلب الرجال جياع في بيوتهم، جياع خارجها.
البارحة فتح لها الباب زوج إحداهن. يستغل تأخر زوجته في غرفة نومها ليقترب منها هامساٌ لها: مازلت جميلة!
– استحي يا رجل ،مرتك بالبيت!
وفي منزل آخر، تسألها الخادمة:
أأحضر لك قهوة ريثما تستفيق سيدتي؟
لا، أفضل العصير الطازج كالذي تشربه سيدتك، لا أحب المنبهات.
أما السيّدة الأجنبية صوفي، ترجوها بلباقة أن تنتظر ريثما يفيق كلبها المدلل الأبيض الذي يغفو فوق ركبتيها. وطمعا بالأجر لا تشفق على نفسها وتنتظر رأفة بكلب السيدة.
في مهنتها، تعلّمت المساومة وأن لكل شيء ثمن.
ضاع عمري، تقول: مات زوجي ولم يمت تقززي منه. هل من الممكن أن يموت أكثر؟ انّه الميت الذي لا محاسن له. كان يريد ابناً. حتى الحمار يحلم بالأبدية .كان يريد وريثا لقذاراته وعيوبه.
الألسنة تبحث دوما عما تلوكه…لم تحفظ لسانها. فلقة محترمة من رجال السيدة ريم، أي كلابها القذرة كانت كافية للتوبة.
تسألها السيدة عليا: لماذا تصومين ؟ لم يحن شهر الصوم بعد!
تجيبها: من أجل أخطاء قد أرتكبها.
أنتِ مؤمنة؟
أكيد.
المدينة غول يبتلع أقدام التّواقين إلى المتع المعروضة على واجهة متاجرها. ستعصر الحياة حتى آخر رشفة منها.
الدنيا كلها بيع وشراء، شراء وبيع .ماذا باعت؟ ماذا اشترت؟ الدنيا سوق كبيرة تبيع الأحلام …
تجلس كل مساء على حافة المصطبة أمام البيت الذي تعيش به وحيدة في القرية بعد وفاة زوجها وتحلم….
تسافر روحها بعيدا….
الزمن لا ذمة له،غربال مثقوب تسرّب منه عمرها، جمالها ،قدّها ،مرآتها ،غرورها.
الذهاب إلى لبنان…المرّة تلو المرة ..آه كم اشتغلت وكم حاسبها زوجها على الليرات التي كانت تقبضها.
حياتها معه ،غصة في صدرها ،شفرات سكاكين تترك وشما عميقا تحت جلدها ،تترك أخاديد في جسد روحها. هي المرأة التي تساقط ربيع حلمها في يد رغبته المتوقدة التي جعلتها تتقزز من جميع الرجال.
هل يذهب البغل إلى الطاحونة مختاراٌ؟
تحمل على كتفيها سنوات جوع وقهر وفي ذاكرتها شقاء الكشف الأول عن كنزها، جسدها العاري في مرآة منزل السيد جورج، العائلة التي كانت تعمل عندهم منذ صباها المجروح بالشقاء. المرآة التي تذكرها اليوم بسنين القهر التي تجاوزت الستون.
أنسى أنّي بلغت هذا العمر لو أنّي لا أنظر إلى المرآة. بعيداً عنها أنا مازلت فتية. هذا ما تقوله.
هل تفكرين بالرجال؟
تجيب بذكاء….الوحدة قاتلة.
لم تختر الطاحونة، الحياة التي نذهب إليها رغما عنا. مجيئنا إلى هذه الدنيا مصادفة وخروجنا منها بمصادفة. والحلم وعداً يتلّوى بين انكسار وانكسار. ثمة من يُخلق ميتاً.
كاتبة وقاصة سورية | خاص موقع قلم رصاص