مناهل السهوي |
عندما أقرأ الشّعر أتخيل دوماً شكلاً لوجود الكاتب، لحظة ما، تشبهه، ينتمي إليها، أحياناً يبدو هارباً من وجه العدالة وأحياناً أراه واقفاً على بناية عالية يستعدُّ للانتحار، وأحياناً مريضاً على فراش الموت في مستشفى بعيد وهناك امرأة حافية تلبس ثوباً طويلاً وتنتظر أمام البحر، امرأة تخاطب البحار والسفن الراحلة، هناك شعراء وجدوا ليقولوا وداعاً لكلّ شيء تماماً كوداد نبي.
تمسك وداد نبي في مجموعتها الثانية “الموت كما لو كان خردة” (بيت المواطن ـ 2016) الموت من يده وتقوده في رحلتها الطويلة، في غربتها المكانية والداخلية، غالباً كتابة الموت تفضي إلى نتيجتين إمّا قصائد ساذجة لم تصل حتى خاصرة الشّعر أو قصائد ناضجة وضعت الموت أساساً لتبني عالمها فوقه، “العنصر القوي” في المجموعة أنّ الشاعرة تجعل من الموت رقيقاً متفتحاً، كائناً لطيفاً، يسمعنا، يغني معنا ويبكي لأحزاننا، وفي ذلك تظهر معاناة وداد الداخلية، كأنها تقول نحن لا نتعلم التعامل مع الكائنات القاسية إلا حينما تفقد قدرتها على إيلامنا أكثر، الموت هنا وجوه ألفناها، أحلام أطفالنا، بيوت بعيدة، ليغدو الموت ظلاً لكلّ ما نمرُّ به، وهكذا يبدو أن وداد أصيبت بتخمة الموت، فالمواجهة معه ما عادت موجودة بقدر ماهي انتظار مألوف:
“خمسون زهرة نرجس بريّة
تفتّحت قرب مقبرة ما
مررت بها لأحصيها
برقّة الغبار المتناثر بالهواء”
قدرة الشاعرة على تطويع الموت كصديق قديم جعلها تبني قصائد “سلسة” غير فجّة كما تكون عادة – كنتيجة طبيعية للحرب- وضعت أنوثتها جانب الموت، في خط بياني شبيه بذلك الذي في أجهزة قياس القلب، جانب مريض وحيد، مترافقة مع صور بسيطة محاطة ببيئة مشحونة بالألم، مما جعل وقعها أشبه بسقوطك في النوم فجأة، غالباً صورها دافئة، خارجة من ذاكرة مكانية آمنة غير خطيرة، عكس الحقيقة التي عاشتها، ربما في محاولة لتصحيح عالمها الكارثي أو لتحيط ذاتها بمفاهيم أكثر قوة وأمانة، ليخرج الألم نشيطاً طازجاً في مفردات متينة التركيب، لتكتسب هي الأخرى روح الألم الذي تودُّ الشاعرة تقديمه بطريقة وكأنّها تلوم العالم، الأمكنة، الأحلام، كلّ الأشياء التي لم تتمكن من إيقاف ذلك السيل وخذلتها:
“في تمام الساعة الخامسة صباحاً
طرقوا الأبواب
فتحوا لهم الأبواب
فأهالي (كوباني) لا يدَعون أحدا خارج بيوتهم يطلب مساعدة
فتحوا الأبواب
فابتسمت المجزرة”
في الحروب تزداد شراهة المرأة للحياة والحب، لذلك فقط نحن نصدق أن الموت سينتهي وكلّ شيء سيكون على ما يرام، هذه المرأة التي تتسلل بين الأنقاض والركام، تغصّ نصوصها بالحب المتجول بحزن، حبٌّ يرافق كلّ النصوص بطريقة أو بأخرى كحبيبة، كأم، أو كعاشقة للوطن، ذلك الحبّ الهزيل، المتردد، الخائف، الذي يُترك كأيّ شيء نتخلى عنه في الحرب، تقدم لنا الشاعرة نصوصَ التخلي والترك عنوة، بطريقة حميميّة للغاية، تدل على شعريّة شهيّة تجاه العالم.
من ناحية أخرى قد تكون النصوص مألوفة كوقع داخلي للقارئ وتسير في خط بياني واحد إلّا أن قدرة وداد الشعريّة العالية أبعدتها عن مطب المكرر، لتضيف لنصوصها قدرة في تجاوز اللحظة الراهنة والتمادي مع الخيال:
“حتى بقايا القهوة على طاولات الماضي
تصاب بالعفونة والصدأ
لن أعرف أين يذهب الحب حينما ينتهي
لن يعرف أحد أبداً”
هكذا تفتح لك المجموعة نافذةَ تجاوزِ الألم والحزن عبر التعايش معهما بمحبة، كأنّ امرأة أخرى تأتي هذا العالم لتمنحه المزيد من المعنى، الحرب هنا تستقل عينيّ وداد لتنطلق بها في هذا العالم تعرفها على المحطات، على المكتبات، الشوارع والحدائق في محاولة لجعل الموت أكثر ألفة.
شاعرة سورية | خاص موقع قلم رصاص