لا أدري لماذا تثير الملابس في المسلسلات التاريخية، فضولي وأسئلتي..! ربما لأنها تشكل خلفية لحوارات كثيرة تدور الآن. أو لربما لأن هذه الملابس لا تبدو منطقية مع المعلومات والمعارف التاريخية والبيئية، وتبعث على اعتماد شكل أيقوني لأشخاص عاشوا في زمن ماض، وها نحن اليوم نجللهم ونجلل تصرفاتهم وأقاويلهم بهالات من احترام مبهم، لا نعرف فائدة محددة أو ملموسة من هذه “الأيقنة” وتكرارها وتعميمها لتتحول إلى ما يشبه القانون الطبيعي الذي لا يحتاج إلى تفكير أو برهان.
ولكن دعونا نتساءل أولاً حول البيئة الزمانية والمكانية، التي لها الحق الأول ولربما النهائي في إقرار نوعية الملابس وكميتها، وهنا لا بد لنا من التساؤل عن هذه الوحدة الغريبة للملابس في المسلسلات التاريخية هذه، فمن البدهي والمعلوم أن تكون ملابس سكان الجبال مختلفة عن ملابس سكان السهول، وسكان الغابات والبساتين مضطرون إلى ارتداء نوع معين من الملابس المختلفة عن ملابس أهل البادية والسهل والصحراء الرملية، وكذلك المحاربون يختلفون في ملابسهم عن القاعدون في الديار الخ.. وعلى التوازي أيضاً لا يمكن للفرد في الصحراء الرملية أن يعيش دون غطاء رأس (مثل الذي يعيش في البرد أو الصحراء الجليدية) وهو أيضاً ما يدعو للتساؤل حول أيقونية غطاء الرأس كاختيار حر أو كتصرف ارتقائي نحو فضيلة هي بالأساس غير مشمولة بضرورة تغطية الرأس، لأن لا أحد يستطيع احتمال الحر والقر دون عازل عنه، وهنا نرى تعميم غطاء الرأس في كل المشاهد الداخلية والخارجية، وفي كل أنواع الطقس والحرارة، للرجال والنساء، في الخيام والقصور، في الحارات المدينية كما في مضارب الصحراء أو البادية، وهو أمر يتناقض تماماً مع التاريخ الفوتوغرافي للمصورين الأوائل الذين وصلوا إلى منطقتنا والتقطوا صوراً تعتبر وثائقاً تاريخية للنساء في خيام الصحراء والبادية دون غطاء رأس، ولا يظن أحد أنه كان اختراعاً مناسباتياً بخصوص حضور الكاميرة، فمن أين جاء هذا الغطاء الأيقوني للرأس على الشاشة الفضية؟
من جهة ثانية، لا أحد يدري من أين جاءت كل هذه الكميات من الأقمشة التي يرتديها الغني والفقير على السواء المحارب والتاجر والراعي على السواء؟ وكذلك النساء من حرات و إماء؟ فمن يلقي نظرة سريعة على على صناعة النسيج في العالم آنذاك، سوف يعرف بالبداهة أن مسلسلاً واحداً سوف يستهلك كل منتجات أنوال المنطقة العربية ومعها الهند أيضاً كما أنه سوف يظن أن الصين كانت تشحن أرزاقها من القماش إلى جزيرة العرب وحواشيها بواسطة “الدي إتش ال” وفي بعض الأمثلة الأخرى كانت اليابان ترسل حريرها الصناعي بالفاكس، حسب طبقات “الشحذلندي” فبالله عليكم (ولدينا أمثلة مثل فيلم أوديب لبازوليني). من أين أتت كل هذه الأقمشة الناعمة والموشاة وهي بعشرات الأمتار كي تكسي امرأة واحدة على سبيل الاحتشام، ليقل لي أي من عتاولة التاريخ ما تعليقه على ألبسة المسلسلات التاريخية، ما هي الأنوال التي تنتج كل ذاك القماش؟ وما هي المصابغ آنذاك التي تصبغ وتلون كل هذا القماش المترامي بهذه الألوان الزاهية؟ وما نوع الغسالات التي تغسلها بسبب توفر المياه في الصحاري والبوادي؟ هل كانت أوتوماتيك أم نصف يدوية؟ وكيف للمرء أن يحمل عشرين كيلو غراماً من القماش أن يعيش دائماً وهو يحملها على كاهليه؟ ما هو سعر ذراع القماش وقتذاك وما هي العملة التي يشرى بها؟ (طبعاً لا أقصد هنا غسيل العملة) وكيف لمحارب في غابة أن يستل سيفه وهو يعالج اشتباك ثوبه مع أغصان الشجر ويربح المبارزة؟ إلخ إلخ…
طبعاً لا أقول هذا الكلام من باب السخرية والإعابة على منتج فني، بل أقوله من باب رفض الغش، واستغلال عدم مقدرتنا كمشاهدين على تغيير ما هو معروض علينا، ومنه ما يجعلني أؤنب نقادنا العرب الذين لا يملون الشكوى والنقيق حول صورتنا في الفن الغربي وفي انتقاداتهم اللاذعة للمنتجات الغربية حيث لا يعلمون أن فنانونا هم من قدم هذه الصورة، وإذا قدموها بصورة حقيقية (فيلم لورنس العرب مثالاً) قالوا عنها صورة مزيفة استشراقية وعدائية، الملابس والإكسسوار دليل حقيقي عن تفاهة الدراما التلفزيونية (ومن قبلها السينمائية) “العربية ” فلا تحملوا الآخرين ذنوبكم.
لا أدري أو ربما نسيت ولا أحب أن أتذكر اسم الفيلم الذي أخرجه “عبقري” السينما العربية يوسف شاهين حول ابن رشد، حيث نرى صيغة بصرية همروجية عن هذا العلامة الإسباني “المسلم” وإذا صفحنا الذكر عن الكراسي البلاستيكية التي تتطاير في خناقة بار للكاوبوي (الموقع اسبانيا عندما كانت في قلب سوريا) الشاهيني، فإننا لا نستطيع الصفح عن الملابس القيادية التي أشار بها شاهين “العبقري” لصناع الدراما التاريخية.
إنها “الغلاغلا” الخطيرة التي يتناولها ويقدمها صناع “الفن” في بلادنا فإذا أضفنا المحتوى الشفاهي المتخلف عبر “الحوار” فلسوف نحصل على رسالة متطرفة على الأقل، وبلهاء على الأكثر، فالناس تلبس أردية لا تستطيع أنوال المرحلة على إنتاجها، ولا أرزاق المرحلة على شرائها، ولا تستطيع أحوال البيئة على اعطائها صفة الفضيلة، فمن أين لها كل هذه الأيقونية؟ فإذا أضفنا الخلط والتعميم، فإننا نحصل على سرد بصري إعلاني تضليلي ليس له مكان في خريطة المعرفة.
لقد كانت الأقوام أيها السادة المتفرجون المهووسون بالحشمة، تعيش بما يقرب العري، وذلك حسب الميسرة، فما كان للثوب تعريفاً ولا موديلاً، حتى يأتي عتاة الدراميين على تصميمه ككمية ضخمة من القماش الملون، لم تكن موجودة، وإذا كانت موجودة فهي في متناول الملوك وليس الأغنياء حتى!
أيها المهووسون بحشمة تاريخية زائفة، عليكم التنبّه أنه ليس هناك من قماش، يكفي لصنع السوتيانات والألبسة الداخلية، ولا حتى بخياطة موديلات تتجاوز ستر البدن من الحر والقر، إنها أكذوبة ناتجة عن أدلجة التاريخ وتتريثه، فإذا كانت الإماء لا يحق لهن بالإستتار، لأنه ببساطة لا يملكن ثمن القماش، وإذا لم تستتر الحرات فلأنهن لا يمتلكن القماش الكافي الذي لم يكن متوفراً آنذاك “فالبولي إستر” الرخيص تم إختراعه بعدهن بأكثر من ألف عام، والمولات المتكاثرة مسؤولة عن تأمينه وليس رحلة الصيف والشتاء.
أيها البلهاء من مصنعين ومتلقين دراميين كفاكم بلاهة… واسألوا أسئلة يعقلها العقل.
مجلة قلم رصاص الثقافية